د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف القرآن الكريم كلام الله (عز وجل ) ، المنزل علي عبده محمد (صلي الله عليه وسلم) ، المتعبد بتلاوته ، المتحدي بأقصر سورة منه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل . وهو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تنقضي عجائبه ، لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالت: «... إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً « (الجن: 1-2) ودعوا إلي الإيمان به: « قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَي مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ وَإِلَي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» (الأحقاف: 30-31) وما أن سمع أحد الأعراب قوله تعالي: « وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَي الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ « (هود: 44) حتي تجلت فطرته وسليقته فقال: أشهد أن هذا كلام رب العالمين لا يشبه كلام المخلوقين، وإلا فمن الذي يأمر الأرض أن تبلع ماءها فتبلع ، ويأمر السماء أن تمسك ماءها فتقلع ، ويأمر الماء أن يغيض فيطيع ويسمع ، إنه وحده رب العالمين ، ولا إله سواه. وما أن سمعه الوليد بن المغيرة حتي انطلق قائلا: والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلي عليه. فهو أصدق الكلام وأحسنه ، وأصدق القصص وأجمله ، وأحسن الحديث وأعذبه وأبلغه ، يقول الحق سبحانه: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَي ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَي اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ « (الزمر: 23). وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته ، يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم): « إن لله أهلين من الناس ، قالوا من هم يا رسول الله ؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته». ولقد كرم الله (عز وجل) أهل القرآن ، وكان سيدنا أبيّ بن كعب (رضي الله عنه) من أهل القرآن المعدودين ، فقال له نبينا (صلي الله عليه وسلم ): يا أبيّ إني أمرت أن أعرض عليك القرآن.فقال أبي: عليّ أنا يا رسول الله!! فقال (صلي الله عليه وسلم): عليك أنت يا أبيّ ، فأعاد أبيّ: عليّ أنا يا رسول الله ، فقال (صلي الله عليه وسلم) نعم عليك أنت يا أبيّ ، فقال أبيّ: أذكرت لك باسمي يا رسول الله ؟ فقال (صلي الله عليه وسلم ) نعم لقد ذكرت لي باسمك ونسبك في الملأ الأعلي يا أبيّ. ومن أهل القرآن سيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) ، وكان النبي (صلي الله عليه وسلم) يقول: من أراد أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد ، وكان ابن مسعود رجلا نحيل الجسد شديد النحول ، فصعد النخلة يوما فانكشفت ساقه ، فضحك بعض الصحابة من شدة نحولها ، فقال (صلي الله عليه وسلم): أتضحكون من ساق ابن مسعود ؟ والله لساق ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد ، ومر (صلي الله عليه وسلم) ومعه الصديقان أبو بكر وعمر علي ابن مسعود وهو يصلي بليلٍ فوقف ( صلي الله عليه وسلم ) وصاحباه يسمعون ، فلما انتهي ابن مسعود من قراءته وركوعه إلي سجوده ، قال (صلي الله عليه وسلم) يابن مسعود سل تعط وادع يستجب لك ، ثم عاد عمر إلي ابن مسعود ، فقال ابن مسعود: ما جاء بك الليلة يا عمر ، فقال: جئت لأبشرك ، فقال ابن مسعود: لقد سبقك بها أبو بكر ، فقال عمر لا أسابق أبا بكر بعدها أبدًا ، والله ما سابقناه في خير إلا سبقنا إليه. ثم إن القرآن الكريم هو أعلي درجات البلاغة والبيان ، فهو - كما قال الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز: - الذي يهجم عليك الحسن منه دفعة واحدة فلا تدري أجاءك الحسن من جهة لفظه أم جهة معناه ، إذ لا تكاد الألفاظ تصل إلي الآذان حتي تكون المعاني قد وصلت إلي القلوب. فكل لفظة أو كلمة وقعت موقعها حيث هي مقصودة لذاتها لا يسد مسدها سواها ، لا من المترادفات عند القدماء ، ولا من حقول الاستبدال الرأسي أو الأفقي عند المحدثين ، وما ذكر كان ذكره مقصودًا لا يقوم مقامه الحذف ، وما حذف كان حذفه أبلغ من الذكر ، ونسوق لذلك أنموذجًا واحدًا ، وهو عدم ذكر الواو في قوله تعالي: « وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَي جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّي إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا...» (الزمر: 71) ، وذكرها في قوله تعالي: « وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَي الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّي إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا...» (الزمر: 73). قال بعض أهل العلم: إن الواو هنا واو الحال ، أي جاءوها والحال أنها مفتوحة ، وهذا من زيادة إكرام الله لعباده الصالحين أن هيأ لهم الجنة قبل قدومهم إليها ، قال تعالي «جنات عدن مفتحة لهم الأبواب» وقال بعض أهل العلم: إن الواو هنا واو الثمانية ذلك أن القرآن الكريم نزل علي سبعة أحرف ، وكانت بعض القبائل العربية تعد فتقول: واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، فتأتي بالواو مع العدد الثامن ، ومن ذلك قوله تعالي في سورة الكهف: « سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ...» (الكهف: 22) وقول الله تعالي في سورة التوبة: « التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ... « (التوبة: 112) ، ويقول سبحانه في سورة التحريم: « عَسَي رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا « (التحريم: 5) ، فلما كانت أبواب جهنم سبعة كما قال الحق سبحانه: « لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ « (الحجر: 44 ) لم يؤت معها بالواو ، حيث لا داعي ولا مسوغ ولا مجال لذكرها ، ولما كانت أبواب الجنة ثمانية جيء معها بالواو ، وكون أبواب الجنة ثمانية وأبواب جهنم سبعة دليل علي أن رحمة الله ( عز وجل ) أوسع من غضبه يقول سبحانه « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَي أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ « (الزمر: 53) فهذا ديننا دين الرحمة والرفق فتح باب الأمل واسعًا أمام العباد جميعًا بعيدًا عن كل مظاهر التشدد والتطرف والعنف والإرهاب الذي عانت وتعاني منه مجتمعاتنا ، وإننا لعلي أمل في أن نصل من خلال العمل علي نشر الفهم الإسلامي الصحيح ، وخدمة كتاب الله ( عز وجل ) إلي أن تحل السماحة واليسر محل العنف والتشدد الطارئ علي ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية السمحة. علي أن عظمة القرآن لا تنحصر في جانب واحد. إنما تتعدي الجانب البياني إلي الجوانب التشريعية، والأخلاقية والانسانية، والاعجاز العلمي والاعجاز الكوني، وهو ما نفعل القول فيه في حديث آخر في مقال قادم إن شاء الله.