بمناسبة ما فجره البعض من جدلٍ عقيم، حول مشروع الدستور الذي انتهت من إعداده لجنة الخبراء الموقرة، في زمن قياسي بعد دراساتٍ راقيةٍ متأنيةٍ، وجهودٍ مخلصةٍ مضنيةٍ، فكان الناتج جديراً بالإحترام، متفقاً إلي حدٍ بعيد مع تطلعات الشعب لإعادة بناء دولته الحديثة، ومسايراً في ذات الوقت لمقتضيات تلك المرحلة الراهنة بالإسراع في خطوات الإصلاح الديمقراطي المنشود. وسواءً كان هذا البعض، قد أثار ذلك الجدل من قبيل إبداء الرأي الموضوعي المجرد، أو لنوازع واعتباراتٍ شخصيةٍ أخري، فإنني أري أن سرعة الحسم واجبةٌ حتي لا تتعثر مسيرةُ ثورتنا التقدمية، ومن هنا أعرضُ لأهم تلك القضايا الجدلية المثارة علي النحو التالي :- أولاً :فيما يتعلق بنظام الإنتخابات البرلمانية، فإنني أؤيد النظام الفردي فقط، ودون خلطه بأي نظامٍ آخر، وذلك للأسباب الآتية :- 1 أنه النظام الذي اعتاد عليه المصريون طوال تاريخهم السياسي الحديث منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً، ولم يرفضه الشعب في يومٍ من الأيام، بل إن تغييره في بعض التجارب الحديثة، أثار حفيظة الكثيرين، وانتهت تلك التجارب بالفشل، واستقر النظام الفردي في الوجدان المصري كأحد الموروثات الثقافية الراسخة . 2 أنه النظام الوحيد - في ظل واقعنا الإجتماعي والثقافي - الذي يضمن وصول الإرادة الشعبية إلي حيث أرادت، لأن الناخب يختار مرشحاً بعينه فيعطيه صوته، بعكس نظام القائمة الذي يذهب بالصوت رغماً عن الناخب إلي مرشحين لا يريدهم ولكنهم فرضوا عليه بقائمةٍ قد لا يعرف منها إلا شخصاً واحداً، بل وقد يذهب صوته إلي قائمةٍ لم يخترها من الأصل في حالة قسمة الغرماء التي تعد تزويراً قانونياً للإرادة الشعبية . 3 أن الدفاع عن نظام القائمة بمقولة أنه يفرض علي الناخب إختيار برنامجٍ محدد لحزب وليس اختياراً شخصياً أو قبلياً، هو دفاعٌ من أولهِ لأخرهِ هراءٌ في هراء، وظاهره بعيدٌ عن قصده، لأن البرامج الحزبية عموماً ما هي إلا موضوعاتٌ إنشائية تصاغُ من كل القيم النبيلة المتعارف عليها بين البشر، ولكن ليس لها أيُ صفةٍ في الإلزام لواضعيها، ولذلك تتشابه بل تكاد تتطابق كل برامج الأحزاب عندنا، ولا أعتقد أن مسئولاً بأي حزب يستطيع ذكر برنامج حزبه أو أوجه تباينه مع البرامج الأخري، فما بال الأخرين من عامة الناس وصفوتهم، فهم يختارون القائمة في واقع الأمر لشخصٍ بذاتهِ فيها . ومن ثَمَّ فإن الأحزاب التي تنادي بالأخذ بنظام القائمة، إنما تشعر بهشاشة تكوينها وضآلة شعبيتها، ولذلك تسعي بانتهازيةٍ حزبية إلي الحصول علي ما لا تستحق، لأن القوائم تتيحُ لها التحالف مع أحزابٍ أو تياراتٍ أخري تحت مظلةٍ واحدة، فيتم اقتسام ناتج التصويت الشعبي دون اعتبارٍ للإرادة الشعبية الحقيقية، إلا إذاتم النص قانوناً علي وجوب أن تكون قائمةُ الحزب مقصور فقط علي أعضائه المقيدين بالحزب منذ خمس سنواتٍ علي الأقل، وأن يكون رئيس الحزب شخصياً مسئولاً جنائياً ومدنياً عن هذا الشرط، وهذا ما أعتقد أن أغلبُ الأحزاب سترفضهُ . 4 أن الشعب المصري بخبراته الطويلة وشواهده العملية، يجيد فرز الأشخاص والصفات أكثر من اجادته فرز البرامج و الشعارات، وهو بذكائهِ الفطري وعبقريته الفذة، اعتاد ببراعةٍ علي اختزال ما يتمناه في شخصٍ بذاته يراه قادراً علي ذلك، وهو ما يتحقق له بنظام الإنتخاب الفردي، ومن ثَمَّ لا يسوغ فرض نظامٍ آخر عليه بحجة الإرتقاء بمستواه الثقافي، لأن المستوي الثقافي هو الذي يفرز النظام المناسب له وليس العكس . 5 أما القول بأن نظام القائمة - علي عكس نظام الفردي - يحول دون تزوير الإنتخابات ويمنع الرشاوي الإنتخابية، فهو قولٌ مرسل لا يستند إلي واقعٍ صحيح، لأن سلامة أو تزوير الإنتخابات مرهون في جميع الأحوال بأمورٍ أخري أهمها توجهات النظام الحاكم والمنظومة الإدارية والحالة المجتمعية . كما أن الرشاوي الإنتخابية - سواءً كانت ماديةً أو عينية، ظاهرةً أو مستترة - إنما يمكن حدوثها مع كلا النظامين، بل أنها تزيد في نظام القائمة، لأن كل مرشحٍ فيها قد يلجأ إليها للترويج لقائمته فضلاً عن لجوئه لها داخل حزبه لنيل ترتيبٍ متقدم في القائمة .ويبقي من نافلة القول، أن النظام الفردي بدوائره الجغرافية الضيقة، يحقق تواصلاً إيجابياً بين المرشح ونائبه، يعود حتماً بالنفع العام علي أبناء الدائرة، بعكس الحال الذي يفضي إليه نظام القائمة . ثانياً :بالنسبة لنسبة الخمسين في المائة المخصصة للعمال والفلاحين، فأري أنه قد آن الأوان لإلغائها، لزوال الظروف وانتهاء الاعتبارات التي دعت إليها، ولم يعد مقبولاً الآن التمييز بين المواطنين علي أساس الجنس أو الدين أو الصفة أو أي شئ أخر . ثالثاً :أما بالنسبة لجعل الأزهر الشريف المرجعية الوحيدة في تفسير كل ما يتعلق بالمادة الثانية من الدستور، فلا أجد غضاضةً في ذلك، لأن حسم الخلافات المستقبلية المحتملة في هذا الإطار، ومن جهةٍ لها مكانتها الدينية المتفق عليها، سوف يحافظ علي سلامة واستقرار وتقدم الدولة، ولا يتعارض مع سلطة التشريع المقررة للبرلمان، لأن رجوعه إلي الأزهرسيكون استثناء وبأغلبيةٍ مناسبةٍ من أعضائه وفي حالة اختلافهم فقط تجاه تشريعٍ بذاته . ومن ثَمَّ أري الإبقاء علي نص المادة 219 أو تعديل صياغتها في إطار ما سبق . يبقي بعد ذلك تذكرة للجميع، بأن من قام بإعداد مشروع الدستور، هم نخبةٌ من خيرة فقهاء الأمة، وأن إخلاصنا لله والوطن يحتم أن تتضافر جهودنا لدفع السفينة للأمام، وليس خرقها بالجدل السفسطائي أو القول المريب .