(لو فرضت علينا قوة غير صديقة هذا النوع من التعليم المتوسط أو دون المتوسط لاعتبرنا ذلك بمثابة عمل من أعمال الحرب). جاءت هذه العبارة الصادمة في طيات تقرير عنوانه أمة في خطر: حتمية إصلاح التعليم, حيث أطلق هذا التقرير صيحة تحذير عن أحوال التعليم, ودق ناقوس التنبيه للأمة. المثير أن الأمة التي استشعرت الخطر هي أمريكا, التي توجد بها أكبر نسبة من الحائزين علي جوائز نوبل في العلوم, والتي تقود العلم والاختراع والابداع التكنولوجي في العالم, وتسيطر علي أسواق المخترعات الحديثة, ولكنها لم تستسلم لأوهام الريادة وادعاءات النبوغ والذكاء, فصدر تقريرها الشهير عن لجنة من ثمانية عشر شخصا من الخبراء في التعليم ومسئولين في الحكومة ورجال أعمال, ضمنته توصياتها لإصلاح التعليم في خمسة محاور أو أجزاء رئيسية تناولت: المحتوي الدراسي, المعايير والتوقعات, التوقيتات, التدريس, القيادة والدعم المالي( وقد يحتاج هذا التقرير منا إلي تحليل مفصل في وقت لاحق). تتعجب, فإذا كانوا وهم من هم يستشعرون الخطر, فنحن إذن أمة في منتهي الخطر!! تذكرت هذا التقرير وتوصياته حين أكد السيد رئيس الجمهورية في كلمته في الاحتفالية المزدوجة بعيد الأم ويوم المعلم أنه لا حضارة بدون علم ولا علم بدون معلم, وأشاد بدور المعلم المصري في تنوير الأمة العربية. وحضرني وقتها السؤال الذي توجهنا به للقائمين علي التعليم( بدولة فنلندا) ذات النظام التعليمي الذي احتكر المركز الأول في التحصيل العلمي بين باقي دول العالم( طبقا لمقاييس منظمة اليونسكو العالمية) لمرات متوالية: كيف تربعتم علي عرش الريادة في التعليم وخرجتم من دائرة الخطر؟ كانت الاجابة المباشرة( المعلم هو الحل)!! واسترسلوا: * يشترط لاختيار المعلم عندهم أن يكون متمكنا من مادته العلمية, مؤهلا تأهيلا عاليا( غالبا حاملا للماجستير أو الدكتوراه). تتوقف وتتساءل ما العمل في بعض من يمتهنون التعليم في بلادنا بلا خبرة وبغير مؤهلات؟ * قالوا لنا أن المتقدم للعمل بالتعليم يخضع لتقييم مكثف فهناك واحد فقط من بين كل عشرة من المتقدمين يتم اختياره لشغل إحدي وظائف التدريس. أتذكر يوم فكر المسئولون في بلادنا في نقل أفراد من العمالة الزائدة في الهيئات الحكومية ثم تدريبهم كمدرسين لسد العجز في وزارة التربية والتعليم!! يومها تساءلت وهل تستغني المصالح الحكومية من بين العاملين بها إلا عن عديم الكفاءة العاطل من القدرات؟ وكيف تأتمن مثله علي تنشئة جيل المستقبل؟ وهل يفهم هؤلاء المسئولون معني التعليم مهنة ورسالة؟ * في البلاد الرائدة في التعليم يمنح المعلم أعلي مرتب في الدولة,( يزيد عن مرتبات أقرانه20 30%), فيلقي التقدير المادي إلي جانب المعنوي ويتفرغ لعمله ويتفاني فيه. أما في بلادنا فبشروا المصريين عموما( والمعلمين خصوصا) بوضع حد أدني لمرتباتهم, وتتساءل أليس الأمر مقلوبا؟ أليس الأجدر أن نبشر المعلمين بالحد الأقصي!؟ وماذا عن كادر المعلم المتعثر؟ يقولون للمعلم في بلادنا أنه صاحب رسالة أشبه برسالة الأنبياء والرسل, والله سبحانه وتعالي هو من سيقدرهم ويكافئهم علي ذلك, وهذا صحيح, ولكن المعلم بشر يستحق أن يثاب في الأرض والسماء معا. * في بلادهم يولون المعلم تدريبا مهنيا مكثفا, ويقومون بإعداده ليكون قدوة وقائدا, يتجاوز دوره مجرد إدارة الفصل أو الدرس, يؤمن بأن كل طفل يستحق الاحترام, ويشجع التلميذ أن يثق بنفسه ويؤمن بقدرته, يستمع للصغار ويحاورهم, فلقد أودع أغلي أمانة تمتلكها البلاد: البنات والأولاد الصغار الذين سوف يتحولون إلي قوة عاملة منتجة ومفكرة ومبدعة إذا أحسن إعدادهم وتنشئتهم. وحسنا أن قمنا بإنشاء أكاديمية للمعلم نتطلع إلي دورها في تأهيل المعلمين وتدريبهم في التخصص العلمي والجوانب التربوية ليعملوا بكفاءة. * في فنلندا, آمن الناس مع الحكومة بل قبل الحكومة أن تطوير التعليم هو الأساس لرفعة المجتمع, وهو طريقهم للتقدم, فصار التعليم هو مشروع الأمة, قضوا25 عاما في التخطيط والممارسة والعمل الدءوب, فتحققت لهم الريادة في التعليم, بينما يختلف الأمر في بلادنا, فلقد وضعنا خطة استراتيجية وبدأنا برامجها التنفيذية, وفي وسط التنفيذ فقدنا الصبر وغيرنا أصحاب البصيرة, وجئنا بأهل البطش والتخويف, فهل نصوب المسار ونستعيد التجارب الواعدة في نظامنا التعليمي الحديث لنراجعها ونبني عليها؟ يساورني خاطر غريب حين أفكر في أحوال التعليم, فلدينا ما يكفي من الأفكار والتوصيات المدعومة بالبحث والتجريب, ولكن في تصوري أن العنصر الذي افتقدناه لا يتعلق بالعملية التعليمية علي الإطلاق, بل يتعلق بإرادة سياسية واعية, نتطلع أن تدرأ الخطر عن أمتنا وتخرج بنا من العتمة, فهل يتحقق الأمر أم يطول الانتظار؟ رابط دائم :