علي مائدة العشاء كان حديثي مع الدكتور شيروود رولاند الحائز جائزة نوبل في العلوم لحساباته الفيزيائية وتنبؤه بحدوث ثقب الأوزون تأملت الرجل وعقله المختلف, فهو حين كان ينظر إلي السماء كان يري خلف لونها الأزرق ثقبا هائلا علي وشك الحدوث. الرجل سليل أسرة أكاديمية, فوالده أستاذ جامعي, يعلم الرياضيات, قلت له لعله تأثير والدك الذي صنع منك تكوينا علميا حاز جائزة نوبل, قال بل هو مدرسي( معلمي) في المدرسة!! واستطرد قا ئلا: حين كنت في الثالثة عشرة من عمري أعطاني ذلك المدرس تكليفا مدرسيا بتسجيل أعلي درجة حرارة في النهار وأدني درجة حرارة في الليل وكان علي أيضا تقدير كمية الامطار الساقطة علي بلدتنا من خلال أجهزة بدائية, وحين جئته بالنتائج طلب مني التفكير في اسباب الاختلاف, وناقش معي معناها, وشرح لي الظواهر الطبيعية المتنوعة, وأرشدني إلي قراءات إضافية, فتفتحت شهيتي لتفهم هذا الكون الذي نعيش فيه. قال العالم المرموق: تقديري وتبجيلي لذلك المعلم الذي غرس في عقلي ذلك الفضول العلمي يفوق كل وصف. قلت له نحن أيضا نبجل المعلم ونضعه في قصائد الشعر في مرتبة تفوق كل البشر كاد المعلم ان يكون رسولا فهو يحمل رسالة سامية, يعلم الصغار, يغذي العقول, يغرس القيم, ويشكل وجدان الفرد والمجتمع. ولكن الفارق شاسع بين قول الشعر وقول الحق, فالمدرس الذي يحثنا الشاعر علي القيام له لنوفيه التبجيلا لا يلقي منا في الواقع الفعلي تقديرا أو توقيرا, والمعلم المصنف لدينا في قصائد الشعراء بين الرسل, هو في دنيا الواقع يعيش بين الطبقات الدنيا الكادحة من البشر. دعنا نتابع بعض ما قام به الأعاجم الذين لا يقرضون الشعر ولا ينظمون القصائد في حب المدرس. كان اللقاء لدراسة ذلك النظام التعليمي الذي تبوأ خريجوه المركز الأول في التحصيل العلمي بين باقي دول العالم ثلاث مرات متاليية( تماما مثلما حصلنا علي كأس إفريقيا في كرةالقدم) حيث صنفت دولة فنلندا في المركز الأول التعليمي من خلال مقياس عياري أعده خبراء عالميون, وأقرته منظمة اليونسكو هو اختبار تحصيل العلوم والرياضيات والتفكيز التحليلي الذي يعد أحد أهم المؤشرات لتقييم جودة النظم التعليمية بين دول العالم, حيث تتباهي البلاد المتحضرة بنتيجة هذا الاختبار. حين سألناهم: كيف تربعتم علي عرش التعليم واحتكرتموه ثلاث مرات, كانت الإجابة في كلمة واحدة هي المعلم ولكن هناك ملامح كثيرة لذلك المعلم استخلص منها ثلاثة: * الملمح الأول: عن المعلم واختياره فيشترط أن يكون مؤهلا تأهيلا عاليا, متمكنا من مادته العلمية, ليستطيع أن يروي بمعلوماته الغزيرة ظمأ القلوب الصغيرة المتعطشة للمعرفة, وأن يفتح بخبرته الواسعة آفاق العلوم لتزدهر عقولهم الخضراء وغالبا ما يكون المعلم حاصلا علي درجة جامعية في الدراسات العليا( ماجستير أو دكتوراه), ويتم اختياره بعناية فائقة, يكفي أن تعرف أن واحدا فقط من بين كل عشرة من المتقدمين يتم اختياره للالتحاق بمهنة التعليم. * الملمح الثاني: يتعلق بالمعلم ومعاملته المالية فلابد من تلبية احتياجاته المعيشية فيمنح المعلم في دولة فنلندا مرتبا يفوق متوسط مرتبات أقرانه في وظائف الدولة غيرالتعليمية بما يزيد علي20-30% مقارنة بما يتقاضاه المهندس أو الطبيب, فهو بذلك يلقي التقدير المادي إلي جانب المعنوي فيتفرغ لعمله ويتفاني فيه. * الملمح الثالث: المعلم وإعداده وتدريبه حيث يتلقي تدريبا مهنيا مكثفا, في التخصص العلمي والجوانب التربوية, ولكن اللافت للنظر في التدريب هو تأهيل المعلم وإعداده ليكون قائدا وقدوة وليس مديرا( والفارق شاسع بين الاثنين), يؤمن بأن كل طفل يستحق الاحترام, يشجع التلميذ أن يثق بنفسه ويؤمن بقدرته, يلجأ إلي الاستماع ويدير الحوار بدلا من القمع والقهر, يدرك إنه أودع أغلي أمانة وأهم ما تمتلكه البلاد: تلك الثروة البشرية من البنات والأولاد الصغار الذين سوف يتحولون إلي قوة عاملة منتجة ومفكرة ومبدعة إذا أحسن إعدادهم وتنشئتهم. استوقفني ما قاله المسئول الفنلندي عن تجربتهم, فهي لم تحدث بين ليلة وضحاها, بل استغرقت25 عاما من التفكير والتخطيط والممارسة, والعمل الدءوب, وتصويب الأخطاء, استوعب الناس والحكومة كل ذلك بصبر وتصميم, كما استوقفتني إشارتهم إلي أن القوة الدافعة لهذا التطوير تكمن في اقتناع الناس مع الحكومة بل قبل الحكومة أن تطوير التعليم هو الأساس لتطوير المجتمع, وأن الحديث عن جودة التعليم بدون إعداد معلم جيد هو نوع من العبث فعمل الجميع معا وشاركوا بإيجابية, وتعاون الإعلام المسئول بالرأي المدروس, دون مزايدة أو احتكار للحكمة أو الوطنية. هكذا تعد الدول المتحضرة معلما ينتج لها عالما فذا يحصل علي جائزة نوبل, وتحقق من خلاله السبق في مضمار العلم والاختراع والاقتصاد. لو قارنا تلك الملامح لإعداد المدرس في الدول الرائدة في التعليم, وبين ما يلقاه المعلم في بلاد يفتقد فيها التأهيل وسبل التنمية المهنية, كما يفتقد المعاملة المالية والمجتمعية الكريمة, لأدركنا سر الأزمة, وإن تساءلنا. هل يعقل أن يحجم الرسول عن نشر رسالته؟ وهل يجوز ان يتخلي الولي عن هداية اتباعه؟ وهل يمكن للمعلم أن يضرب عن تعليم تلاميذه؟ ويلح علي السؤال: أين نحن من مسئولية مجتمعية تجاه المعلم في بلادنا, الممزق بين واجبه والتزامة المهني وبين احتياجاته الحياتية, ذلك المعلم الظالم والمظلوم, المظلوم بتجاهلنا له وعدم رعايته مهنيا واجتماعيا وماديا, الظالم بإضرابه عن العمل. ولكن يسبق كل ذلك سؤال أهم وأشمل: كيف السبيل إلي نظام تربوي وتعليمي جيد يؤهل أبناءنا لعالم متغير في معارفه ومفاهيمه, ويرسخ قيما مجتمعية تدعو إلي التضافر والتكافل والعدل, ويرتقي بأمتنا إلي الإنتاج والرخاء؟ ولا يكتفي بترديد الشعارات الرنانة وادعاءات الريادة. جامعة الإسكندرية