رصدت الأهرام المسائي حالة من المشاعر الإنسانية النادرة والنبيلة في واقعة أغرب من الخيال.. تدعوك أن تتجرد قبل قراءتها.. وأن تصفي قلبك وعقلك وألا تمر بعينيك فقط علي الحروف والكلمات, وتأمل بماذا تفيض علينا أبواب السماء.. تعالت أصوات النسوة واحتدم صياحهن في صخب داخل دورات المياه الخاصة بالسيدات الملحقة بمسجد الفتح في ميدان رمسيس وهن يلتففن حول طفل صغير لم يتجاوز عمره العامين, وقد علا صوت بكائه في حرقة مؤلمة مختلطا مع أصوات الباعة ومناداة سائقي الميكروباص المرتفعة فوق كل صوت في المنطقة. وجذب بكاء الصغير بائعة الصحف التي كانت في طريقها للوضوء فاقتربت من جموع النسوة تستطلع الأمر فاخترقت أذنيها عبارة ده عيل تايه. وما إن لمحت الصغير حتي خرجت منها شهقة وضربت صدرها بكفها وتسمرت قدماها بالأرض وتسارعت خطواتها حتي اخترقت الأجساد المتلاصقة محاولة إسكات صراخ الصغير ووقفت أمامه وانثنت ترفعه إليها وهي تحتضنه في عطف كبير, ولكن الصغير لم يهدأ منتفضا في هستيرية باحثا عن أمه, وخرجت تحمله وهو يحرك ذراعيه وقدميه محاولا التملص من بين ذراعيها وحضنها له. كانت حنان تشعر بسعادة غريبة تسللت إليها وهي تحمل الصغير متجهة إلي فرشة الصحف, كانت تفكر في إيواء الصغير وتربيته ورأته في خيالها يكبر ويحافظ عليها وهي تفترش الكرتون قبل أن تنام علي الرصيف كل ليلة بلا سكن يؤويها. وأفاقت من أحلامها علي صوت أحمد بائع الملابس بجوار فرشتها يسألها عن الطفل الذي تحمله وكان يبدو له من ظهره فدار حولها في فضول ليري وجهه. والتقت أعينهما وشعر أحمد أن تماسا غريبا لمس أوتار مشاعره وبعد عتاب ولوم قصير للبائعة وأنها لن تستطيع رعايته أو حمايته أشار للصغير من فوق كتف السيدة بذراعيه فاتحا حضنه له, ولم يتردد الطفل ارتمي في حضن أحمد ولف أصابعه الدقيقة حول رقبته يبادله حنانا بحنان ولطفا بود دغدغ أحمد. رغم مشاعره تجاه الطفل أوصي أحمد إمام مسجد الفتح بإذاعة أوصاف الطفل طوال اليوم في الميكروفون ربما تكون أمه قريبة تبحث عنه فتسمع النداء وتعود ولكن دون جدوي, فاتجه يبحث في بلاغات المفقودين في أقسام الشرطة القريبة من الميدان لكنه لم يجد أي بلاغات تخص الصغير. ملك الصغير أحاسيس أحمد وسيطر علي مشاعره ولاحظ أن ملابسه مبتلة تماما وأن السعال بدأ يسيطر علي بكائه غير المنقطع, وعاد يلف من جديد حول المسجد من الخارج والشوارع المحيطة بدون جدوي, وبذل أحمد كل الحيل والأساليب لإسكات الصغير الذي تظهر علي استحياء من فمه سنتان صغيرتان تعينانه علي نطق ماما آآه بصعوبة شديدة ولكنه نداء الممزق للأسماع من التائه الباحث عن سبب وجوده في الحياة ومن يتوكأ عليها لاستكشاف الدنيا.. ماما آآه صرخة عميقة فتتت قلب كل من تخيل أن يكون له ولد ثم يضيع منه. شعر أحمد أنه يواجه أمرا يفوق قدراته وأعصابه علي التحمل وضم الصغير الباكي إليه أكثر محاولا أن يغطيه بذراعيه ويكفيه الردي والشرر. لاحظ أحمد أن الطفل يرتدي حفاضة اشتكت من رعب المسكين الصغير وما تحمله من أسي, ويجب استبدالها فاتجه إلي الرصيف المقابل واشتري حفاضتين وعاد يدخل حمام الرجال وقام بما تفعله كل أم لصغيرها لم يتأفف أو يعترض وهدأ صراخ الصغير قليلا ونظر إلي من يبثه الطمأنينة والحب. أيقظت نظرة الصغير بداخله مشاعر طالما تشوقت نفسه إليها, رأي أحمد في الطفل أخيه الصغير محمد الذي خطفه الموت في رمضان الماضي في العشرينات من عمره, زاد أحمد من إشفاقه علي الصغير وأخرج من تحت إبطه بنطالا يكبر مقاسه عن الصغير قليلا وأدخل رجليه الصغيرتين ورفع البنطال حتي صدر الصغير وبعد فترة قصيرة من الهدوء عاد المسكين يتذكر أمه فانطلقت ماما آآه من جديد, مزقت أحمد الذي يحايل الصغير بكل أنواع البسكويت والحلويات. وأخيرا أخرج هاتفه واتصل بزوجته وحثها علي أن تأتيه من مسكنهما بدار السلام لتتسلم هدية من السماء. لم تستوعب الزوجة الطيبة حديث زوجها وتسرب إليها القلق من نبرة الحماس الزائد المشحونة في حديثه. أنهي أحمد مكالمته والتفت ينظر للصغير متهلل الأسارير وبدأ يسأل نفسه عن اسم الصغير يناديه به وبدأ يجرب لعبة الأسماء ولكن الصغير الذي بدأ يتسلل إليه الابتسام رويدا رويدا عقب أمنه بعد خوف. لم يستجب الصغير إلي اسم ذكره أحمد الذي لاحظ أن لسانه لم يهدأ وذكر كافة الأسماء التي يعرفها حتي صاح فيه مداعبا أنت محمد فضحك الطفل وقبض بأصابعه علي علبة العصير محاولا أن يرتشف جرعة كبيرة تسد رمقه واطمأن أحمد للاسم الجديد. وأقبلت الزوجة تتصبب عرقا يدق في رأسها ألف سؤال عن هدية السماء التي أخبرها بها الزوج, واقتربت تنظر إلي زوجها في قلق تستوضح الأمر فأخبرها أنه سيؤوي الصغير باسما من بين الملابس وهو يلعب فناداه أحمد قائلا: تعالي يا محمد شوف ماما.. تفجرت أشجان وأحاسيس ومشاعر طال احتباسها كثيرا.. وتسارعت دقات قلبها واتسعت عيناها غير مصدقة أنه سيكون لها طفلا تناديه باسمه وتسمع منه كلمة ماما... وهي التي أكد الأطباء استحالة حمله بعد استشارات وتحاليل طوال عامين, وفي لمحة سريعة تسلل إليها شعور بالحزن وانقبض قلبها وهي تفكر في أم الصغير ماذا تكون فاعلة الآن وهي تبحث عن صغيرها المفقود. واقتربت الزوجة من الصغير وقد سري في أوصالها بهجة ودفء لذيذ لم تشعر به من قبل وانحنت تمسك كفه الرقيقة واحتوتها بيديها وقبلتها ثم رفعته في خفة عن الأرض عاليا وقذفته مداعبة وفتحت ذراعيها تستقبله في الهواء وامتزج ضحكهما معا فنهرها زوجها في حب موصيا أن تحافظ عليه ونصحها أن تعود به إلي البيت وتلبي كل طلباته ولا تبخل عليه بأي طعام أو شراب, وفرح الصغير بالصحبة الجديدة وبدأ الدم يقفز في وجنتيه لأول مرة وزوجة أحمد تحتضنه في دفء يعجز القلم عن وصفه ونزلت دموعها شاكرة لله... استقلت السيدة والطفل عربة السيدات بالمترو.. وفجأة صرخ الصغير محاولا القفز من بين يدي زوجة أحمد, تمسكت السيدة بالصغير خشية سقوطه وانتبهت وتلفتت عما يجذب الصغير محاولا التعلق به أو إمساكه فلاحظت اتجاهه إلي إحدي السيدات المنتقبات معها أبناؤها تحاول ملاعبة الصغير واستمر الصغير يصرخ منجذبا كلما ظهرت سيدة منتقبة. وبعد دقائق كانت أم زوجها تفتح الباب متهللة صائحة الله أكبر.. هذا ابني أنا وضحك الصغير مطمئنا لحفاوة من تحمله ومن تستقبله, تركت الزوجة الطفل مع السيدة المسنة وخرجت تشتري حاجيات الطفل ودواء للسعال من الصيدلية. وانتهي عمل أحمد وبدأت رحلة عودته إلي المنزل وشرد يفكر في أن اليوم الجمعة الذكري الثانية لقيام ثورة25 يناير وربما تكون إحدي الأمهات نسيت الطفل في دورة المياه, أو شيطان دبر مكروها لأمه فغابت مضطرة عنه, أو ربما حدثت لها حادثة سير أو دهس بسيارة مسرعة.. واستغرقته الأفكار السوداء حتي وجد نفسه أمام باب شقته تفتح له زوجته وقد أشرق وجهها بشرا ومعها أمه والصغير منطلقا يجوب في أنحاء الشقة وحوله الألعاب الجديدة والحلوي المنثورة في كل مكان. جنة جميلة طالما اشتاق لها الزوجان وحرما منها منذ زمن إحساس بالنعمة لا يوصف ومحمد الصغير يحاول إعادة الكلمات والتهتهة تخرج الحروف رائعة تسلب العقول.. ومر ثلاثة عشر يوما شعر أحمد أنه ربما ارتكب إثما بإيوائه للصغير التائه. فاصطحب زوجته ومحمد واتجهوا إلي المقدم سامح القللي رئيس مباحث قسم دار السلام ودار بينهم أغرب حوار.. مفرداته تشي بسمو الإنسانية المطل فوقهم, سأل الضابط الأم بعد سماعه القصة من الزوج.. هل أنت متعلقة به ؟.. بكت الأم وردت بالإيجاب.. رق قلب الضابط وعاد يسألها.. وإذا ظهرت أمه ماذا تفعلين ؟.. سكتت عن البكاء وقالت.. أكون سعيدة المهم ألا يشرد ويكون له مأوي.. فأوصي رئيس المباحث بعمل المحضر اللازم و بإبلاغ اللواء عصام سعد مدير المباحث الجنائية والعميد هشام لطفي مفتش مباحث الجنوب قررا إبلاغ النيابة وأرسل معهم أمين الشرطة إلي النيابة لاستطلاع صور وأعمار وأوصاف المتغيبين ولم يعثر علي معلومات عن الصغير, فأوصت النيابة بإرسال الأسرة للاستعلام من مصلحة الأمن العام بالعباسية إذا لم يتم العثور علي معلومات جديدة ينفذ قرارها بتسليم الطفل للأسرة علي سبيل الأمانة وأخذ التعهد اللازم عليهم بإحضاره حين طلبه ورعايته الرعاية اللازمة. وبجفون ترتجف وخوف شديد قالت الزوجة أتمني لمحمد الخير ولا أخشي ظهور أهله, وتسربت الدموع من عينيها وهي تقول: امه إذا كانت حية كان الله في عونها أشعر بها تتمزق وتموت كل يوم حتي تري ولدها من جديد. وبصوت خفيض خرجت الكلمات بطيئة من أحمد وهو يرد علي استفسارات المقدم سامح القللي وهو يقول: أول ما رأيته شاورت له أن يتجه لأحضاني فارتمي علي في اشتياق غريب وعند احتضانه شعرت أنه ابني انتابني احساس خارج الوصف وأمسك بيده الصغيرة رقبتي فقلت في نفسي سأساعده بأي شكل وبالفعل بارك الله في رزقي وزادت ميزانيتي منذ قدومه ولم اتكلف ماديا أي مصاريف تذكر.. وتتدخل زوجته في الحديث وهي تقول في توسل.. شعرت بالفعل أن محمد هدية السماء.