منزل يضج بالحركة, يتزين, تتزين الحديقة المحيطة به بالأنوار الخافتة, استعدادا للاحتفال بعيد ميلاد الطفل ميرو البالغ من العمر تسع سنوات, أضواء الشموع بدأت تتألق قبل المغرب بساعة في الهول الرئيسي للمنزل الوصدحت أصوات الموسيقي الهادئة,تبعتها أهازيج عيد الميلاد الخفيفة فأغنية وليد توفيقHappybirthdaytoyou ينساب الصوت هادئا دافئا مع كلمات الأغنية انزل يا جميل في الساحة, واتمخطر كده بالراحة, دا أنا اد عينيك مع إن نظرة عينيك دباحة. سمعت العمة شهيرة الأغنية, فأحست بالصوت العذب يملأ أجواء المنزل حنانا, ليفيض علي الحديقة الصغيرة, فتتراقص رياح الشتاء الباردة, ثملة بأطيب نسمات الحب والبراءة, وكأن الصوت الحاني يخفف من كآبة السماء المدلهمة, ليبعث شريانا دافئا وسط الأجواء الباردة, فيضفي علي الوجود جلالا وشاعرية, اقترب الطفل ميرو من زجاج نافذة حجرته الصغيرة, ووقعت عيناه ومصادفة علي رذاذ المطر المتساقط علي الزجاج, وفي الحديقة من حوله, فازداد شعورا بالوحشة, ففي مثل هذا التوقيت من العام الماضي كانت أمه تحتضن كيانه الصغير, وتدفئه بقبلاتها الرقيقة, ولكنها تركته ورحلت وراء أطماع الدكتوراه, ولم يعد من حوله سوي والده وعمته شهيرة, الموكلة به من قبل أمه, والتي فضلتها علي شقيقتها راندا, وعلي عمته الأخري التي تقطن فوقهم في الطابق الثاني, وعلي الرغم من شبه تفرغ عمته لرعايته إلا أنه لوحظ أن الطفل عيناه مملوءتان بالحزن, وأصبح في كثير من الأحيان يعاني من عدم التركيز والآن بلغ به الحزن مداه, ففي مثل هذه المناسبة العطرة عيد ميلاده, كان يحتسي من دفء صدرها وحنان عينيها, فتتعالي ضحكاته البريئة, فكان يقول: مامي مامي, فتفتح ذراعيها, فيجري حتي يذوب بين أحضانها, وتقول: كل سنة وأنت طيب ياجميل, عقبال يا رب ماتكبر وتبقي أد بابا, فيقول: وانتي جنبي علي طول يا ماما, فتقول: ياروح قلبي, وتضمه مرة أخري, فتتعالي ضحكاته ملأي بالنشوة, والآن أصبح ولأول مرة في عمره القصير يحتفل بعيد ميلاده وحده بدون أمه, ورغم وجود معظم أقاربه من حوله إلا أنه استقبل كل التهاني وكل الأغاني والأهازيج من حوله بالصمت الغامض, وامتلأت عيناه بالحزن. وفي اليوم الثاني سمع صوت طنط راجية في الطابق الثاني أعلي منزله, ففرح فرحا شديدا, وعلت ضحكاته, وهرع إلي عمته سلوي في الطابق الثاني, وملابسه معفرة ومحملة بالأتربة, وغير منظمة بالمرة, فلم تفلح عمته شهيرة في إقناعه بالمحافظة علي مظهره كما كانت تفعل أمه, لم يستطع أن يصل بيده إلي الجرس, فطرق الباب بأطراف أصابعه, ففتحت له راجية الباب, وقالت: أهلا أهلا حبيبي, فهي صديقة مقربة جدا من أمه, احتضنته وخبأت كيانه الصغير الي صدرها الحاني, ووضعته علي ساقيها, وأخذت تقبله, فأخذ يقول: هاهاهاها وهستريا الفرح علي وجهه البريء فقالت: ايه ايه فقال: كل مباشوفك ياطنط بحس إن ماما أربت تيجي من السفر, فقالت: ياحبيبي, وأخذت تهزه, وهو جالس علي فخذيها, وبين جسدها الذي يفيض جمالا وإغراء استشعره الطفل الصغير, علي الرغم من عدم قدرته علي معرفة مايحويه من أسرار, لأنها فوق قدرته العقلية والعاطفية, والحقيقة أن مدام راجية صديقة والدته وهي امرأة في الخامسة والثلاثين من عمرها, تتمتع بحنان طبيعي يدركه المقربون منها, والذي يهمنا في هذا الوضع أن العمة سلوي كانت معروفة بالفظاظة والغلظة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها, وهي صديقة لراجية أيضا, وعندما جاءت من المطبخ علي صوت المداعبات وجدت الطفل بملابسه المحملة بالأتربة, يجلس علي ساقي راجية وبين صدرها, فقالت بمنتهي القسوة: ولد يا أمير هدومك وسخة كده ليه؟ حاتوسخ طنط راجية وهدومها الغالية, فاحمر وجه الطفل, وكاد يبكي, واعتراه خجل شديد, خففت منه راجية بأحضانها وقبلاتها, ولكن الطفل بالتأكيد أحس أنه جرح في صميم كبريائه, فبعد دقائق معدودة غادر البيت مكسورا, وقال: معلش يا طنط راجية, مش حاوسخك تاني, وبعد هذا الموقف بأسبوع وفي الزيارة التالية لراجية, قالت لسلوي: والنبي يا سلوي خليكي حنينة مع ميرو خاصة في مثل هذه الظروف؟ فأنت تعرفين أن أمه غائبة والولد مهزوز, فرنت إليها سلوي ولم تقلق فقالت راجية: علشان خاطري ياأبلة سلوي فأومأت برأسها وبالفعل حضر الطفل ميرو, وفتحت راجية ذراعيها, وأخذ الطفل يقبلها, ويقول: طنط راجية كنت فين بقالك أسبوع؟ أوعي تغيبي علي, فقالت: يا حبيبي واحتضنته كالعادة, ولكن الطفل كان يرتدي هذه المرة ملابس نظيفة جدا, وعلي الرغم من ذلك فإن الخجل كان يعتريه, لأن ملابسه رغم نظافتها فإنها وبحكم أنه طفل صغير كانت تميل إلي البساطة, وملابس راجية فاخرة جدا, فانتابه الخجل, خوفا علي ملابس أمه الثانية, وخوفا من تجريح عمته لقلبه الصغير, فصار الخجل والانكسار يلفان كيانه الصغير, فتضحك راجية وتداعبه, في محاولة لإخراجه من خجله, ولكن دون جدوي, نظرا لأن عمته كانت دائمة التفتيش علي ملابسه بنظراتها الثاقبة, فكان هذا الوضع يؤلمه جدا, ويشعره بالضآلة, ويعتريه إحساس بعدم الثقة وفي إحدي المرات وبعد أن أرتشف الطفل جرعة الحنان المعتادة من صدر راجية, أخذ يعبث في أرجاء المنزل, وفي البلكونات, وهي غير نظيفة, فعلقت بعض الاتربة البسيطة بملابسه, فاحتدت عليه عمته, وقالت: ولد يا أمير, متلعبش في البلكونة, البلكونة وسخة, شكلك حايبقي وسخ تاني, منظرك حايبقي مقرف, فانزوي الطفل, وملأه إحساس بالخوف والانكسار, فاحتدت راجية قائلة: مش معقول كده أبدا, يا سلوي حرام عليكي, وضحكت في وجه الطفل, وأجلسته إلي جوارها, وغطت كيانه بذراعيها, وربتت بيدها الأخري علي صدره, فبكي وقال: ماما غابت قوي ياطنط راجية, دا قالت لي إنها حاتغيب أسبوعا واحدا, وحاتيجي علي طول, فاحتضنته المرأة وقالت: معلش ياحبيبي, كلها شهر واحد وحاتيجي, فقالت: ومش حاتسافر تاني؟ لأ يا حبيبي مش حتسافر تاني, هي حاتيجي علشان تقعد معاك علي طول. ولما تيجي حتبقي تيجي تزورينا علي طول زي الأول ياطنط, فقالت: طبعا ياحبيبي, فانتشي, فضمته, وبعدها انزلق من علي صدرها, وأخذ يقول: انا أتأخرت أوي, باي باي, مع السلامة فضحكت, وودعته بقبلة من فمها ارسلتها وراءه في الهواء, وقالت باي ياحبيبي. وبعد أسبوع علت المنزل الأهازيج والأفراح, حيث ترامت الأنباء بقوة تشير إلي عودة نهال في أجازة قصيرة, ربما تستغرق شهرا أو شهرين, وبالطبع كان أكثر الناس اغتباطا لهذا الخبر هو الطفل ميرو, ولكنه كان فرحا هادئا, مشوبا بالحذر والشك, وبمجرد ان وصلت رمي بنفسه إلي صدرها, وهو يبكي بصورة, تشير إلي ان الطفل لم يكن يصدق أبدا انه سوف يري أمه مرة أخري, وبالفعل فإن الطفل كان يشك في موت أمه, ويشك ايضا بأن السفر وراء احلام الدكتوراه حجة واهية لإخفاء حقيقة موتها, لذا فإن الطفل أصيب بحالة من الفرح الهستيري بمجرد رؤيتها, وانعكس ذلك في حالته النفسية بعد ذلك, فانجابت عنه حالة الصمت الرهيب التي كانت تعتريه من آن إلي آخر وأصبح أكثر حركة, وأكثر نشاطا, وانعكس ذلك في صوته, فبعد أن كان صوتا مرتعشا ضعيفا علت نبراته, وامتلأت قوة وشجاعة. وفي إحدي ليالي الشتاء الدافئة, وبعد مجيء نهال بأسبوعين, اتفقت القريبات والصديقات علي الاجتماع في بيت العمة سلوي مساء, للسمر والتسلية في حفلة شاي اعدتها سلوي خصيصا لهم, ووسط هذا الجمع كان هناك ثلاثة أطفال, من بينهم الطفل ميرو, وأخذ الأطفال الثلاثة يلعبون بالقطارات وبالألعاب الورقية, ويجرون وراء بعضهم البعض من حين لآخر وأكثرهم حدة الطفل ميرو, صوته أعلي مما كان معروفا عنه منذ شهرين, وصار يعدو في أرجاء المنزل, ويقفز علي الكراسي بشكل مزعج للعمة سلوي, خاصة أنها من طبيعتها ألا تتحمل كل هذا الإزعاج, فلو كان من الكبار فإنها تتحمله علي مضض, فما بالك بالأطفال, أحمر وجهها بشدة, وقالت: ولد يا أمير, فقال بصوت مملوء بالجرأة والشجاعة, نعم ياعمتي, فجفلت, لأنها استشعرت بتواري نبرة صوته الحزينة والخفيضة, فنظرت إليه بحدة, وقالت: بلاش دوشة يا ولد يا أليل الأدب اتهد ياولد, فقال: بس ياوحشة ياسودة ياعجوزة أنا بكرهك, فقالت: بس يامجرم ياسافل, فضحك ميرو, وعدا من المنزل إلي الخارج متجها إلي منزله في الدور الأرضي, ووضع جميع النسوة أكفهن علي أفواههن, ليدارين ما اعتراهن من هستيريا الضحك, وهمست راجية في أذن نهال, وقالت مبتسمة: ملعون أبو الدكتوراه. محمد حسين سوسة عضو اتحاد الكتاب