كنت قد اعتدت مابين الحين والآخر علي تسجيل شطر من مذكراتي الشخصية التي لم أشأ أن أجعل منها مذكرات يومية, بيد أني لم أغفل عن تدوين أجزاء منها كل بضعة أسابيع وأحيانا كل بضعة أيام. وقبل أن أتم العقد الثالث من عمري كان مجمل ماكتبته في مذكراتي أن اسمي هو نشأت كامل وأمتلك حانوتا لبيع البقالة والعطارة ورثته عن أبي الحاجإبراهيم كاملالذي اشتعر في الحي كله بتقواه وورعه. وكنت أعمل مع أبي في الحانوت منذ كنت صبيا صغيرا وإلي أن لقي ربه منذ قرابة عام وبضعة أشهر. وكان الحانوت يقع أسفل العشة الخشبية التي كنا نقطن بها والمكونة من ثلاثة طوابق آخرها كان عبارة عن غرفة واحدة بالسطح. وأما العشة ذاتها فكانت تقع في أول شارع البحر والذي يربض في آخره البحر الميت الذي كان هو قوام عمري كله, بمثل ما كانت أبي قير هي دنيتي وعالمي وأولي وآخري ومنتهاي. وكان أبي قد اعتاد منذ أن فرغ من بناء العشة وافتتاح حانوت البقالة علي أن يغلق الحانوت في تمام الساعة السادسة من مساء كل يوم, وكان ينقدني مصروفي اليومي فور فراغه من إغلاق الحانوت. وكنا نعرج معا الي المسجد لنصلي صلاة العشاء, ثم أودع أبي وأتمشي الهوينا في شارع البحر واشتري البسبوسة والهريسة من أحدي العربات المتناثرة في شتي أرجاء الحي, ثم لا تلبث وأن تصل بي خطواتي إلي شاطيء البحر الذي أعشقه لأبقي هناك في حضن الشاطيء وعند قدومي البحر الميت نحو ساعة أو يزيد, ثم لا أفتأ وأن أعود أدراجي الي العشة لأتناول وجبة العشاء مع أبي وأمي وأختي الصغيرة. ومع بدايات العقد الرابع من عمري بدأت حياتي تأخذ منحني آخر مغايرا لما سبقه. وأني لأتذكر ذلك اليوم جيدا وكان الخميس الأول من الشهر, وكنت قد أغلقت الحانوت حوالي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم, ثم عرجت كعادتي إلي المسجد وجلست في صحنه أنتظر سماع أذان العشاء بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وأنا متلهف لسماع صوته الحافل بالأسي والشجن والذي جري في عروقي مجري الدم وساهم في تشكيل وجداني. وانبعث صوت الشيخ من عالم الخلود وهو يؤذن: حي علي الصلاة...حي علي الفلاح الله اكبر.. لا إله إلا الله وبعدما فرغ الصوت الخالد من الأذان, توضأت ثم صليت صلاة العشاء. وعقب انصرافي من المسجد, أخذت أمشي الهوينا في شارع البحر إلي وجهتي اليومية المعتادة حيث شاطيء البحر الميت الأثير إلي قلبي. وعند رمال الشاطيء أبصرت بغادة ممشوقة القوام وسمراء اللون كانت تتمشي بمحاذاة البحر. وكانت مياه البحر تلثم قدميها وكأنها تتعبد لصاحبة هذا القوام الساحر العجيب,بينما كان القمر العاشق يسكب عليها أضواءه الفضية في خشوع ورهبة وإذا بصوت حمله المذياع شاء أن يرتل للسحر ويتعبد للجمال فمضي يترنم بهذا الترنيم: سمراء ياحلم الطفولة..يامنية النفس العليلة كيف الوصول الي حماك..وليس لي في الأمر حيلة وظللت أرمق هذا السحر وأترنم لربة الجمال مع صوت المذياع حتي انثنت الغادة عائدة من حيث أتت واحتواها الليل في حضنه وأفقت إلي نفسي وأنا كالمسحور ثم عدت أدراجي الي العشة وأنا بين نائم ومستفيق. وظللت علي تلك الحال نحو عام ونصف العام وأنا أتعبد لذلك الحسن في معبد الجمال. وكنت مساء كل خميس ألمح السمراء تتمشي علي رمال الشاطئ وتداعب الأمواج بقدميها, وإن غلب علي ظني بأن الأمواج هي التي كانت تداعبها. وظل صوت المذياع يرتل لربة الحسن: سمراء ياحلم الطفولة وعندما كانت السمراء تغيب عن ناظري, كنت أسترد نفسي شيئا فشيئا وأنا أتمشي في شارع البحر. ومتي صار الشاطئ ورائي كنت أشعر بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يؤذن في صدري فتنهمر عيناي بالدموع. وذات مساء شاهدت ربة الحسن وهي تتمشي الهوينا كعادتها علي رمال الشاطئ, وإذا بصبي صغير يعدو نحوها وهو يناديها باسمها, وعرفت بأن اسمها سلمي وبعد مرور أسبوع لم أجد السمراء وشاهدت الصبي يلهو وحده علي رمال الشاطئ,وتوجهت نحوه سائلا إياه عن سبب غياب سلمي؟؟ونزل علي صوته نزول الصاعقة وهو يهتف بي بصوت أسيف: ياعماه.. سلمي قد ماتت!!.. وألجمتني المفاجأة, ومضيت من فوري إلي شارع البحر وأنا أشعر بأني قد ولدت من جديد لقد انهار معبد الحسن المشئوم, وتحررت من أسر الشيطان, وأخذت أستنشق الهواء البارد كأني أستنشق إكسير الحياة. وتذكرت صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد فرفعت عيني الي السماء والدموع تنسال علي وجنتي وهتفت بملء قلبي: لا إله إلا الله..