إذا تناولنا نظريات التغيير الإنسانية الرئيسية عبر التاريخ، لوجدنا أن أهم نقاط الخلاف بينها –من وجهة نظر الكثيرين- هى نقطة مركز التغيير، هناك نظريات تحاول أن تضع الإنسان فى المركز، ونظريات تضع المجتمع فى المركز. النظريات التى تضع الإنسان فى المركز، تؤكد على قدرة الفرد فى الصمود أمام مغريات وفساد المجتمع وانحراف منظومة قيمه، والنظريات التى تضع المجتمع فى المركز تؤكد على قدرة منظومة القيم الجماعية فى توجيه السلوك الفردي للإنسان نحو الفساد والانحراف، أو نحو العدل والصلاح. يدور الجدل بين ما هو مفترض ونموذجي ومثالي، وبين ما هو واقعي ومادي وسائد! هل يخضع الإنسان لظروف الواقع وهى التى تحدد سلوكه؟ أم على الإنسان أن يتمسك بمثل ونماذج قيمية ولا يتأثر بما هو موجود فى الواقع.. هل الذات والنفس البشرية الفردية تستطيع أن تنتصر على أنماط وقيم الجماعة! أم الجماعة –أيا كانت قيمها- هى التى تشكل الذات الفردية وسلوكها. ترى النظريات التى تنطلق من الواقع أن التغيير المادي والملموس فى الواقع والحياة اليومية؛ يؤدى بالضرورة لتغيير منطقي فى الأفراد ومنظومة قيمهم، وهذه النظريات عموما تربط سلوك الإنسان ومنظومة قيمه بظروف الحياة التى يعيشها، أما مشكلتها فتكمن فى إهمالها الفروق الفردية بين البشر، وعدم وضعها وزنا كافيا لقدرة أصحاب المواهب على صنع تغيير جماعى، يتفوق وينتصر على ظروف الواقع، وعلى جهة أخرى تهمل وضع نمط جماعى لفكرة القيم والسلوكيات الفردية.. وإلى هذا الفريق تنتمي العديد من النظريات الإنسانية الأوربية الحديثة، ونماذجها التى سادت فى العالم المعاصر. أما النظريات التى تنطلق من الإنسان فتركز على زيادة قدرة الفرد على الصمود فى مواجهة مغريات أو متطلبات الواقع، هى – من وجهة ما- تحاول أن تصنع حاجزا بين الإنسان ومتطلباته وحاجاته المادية، بدلا من العمل على تلبيته، فتعتمد على المساحة الروحية والنفسية التى تقوم على الصبر والاستغناء والتعفف، ومشكلتها أنها تهمل بدورها الفروق الفردية، وعدم قدرة عموم الناس على الصبر فى مواجهة المغريات، فيتشدد أهل هذا الفريق ويتحول مفهومهم للتغيير والنظرية الإنسانية لفكرة: التقييد، ومحاولة السيطرة على حاجات الإنسان الفطرية وكبحها، بدلا من محاولة تغيير ظروف الواقع وتلبية حاجات الإنسان! ويحسب على هذا الفريق عامة النمط أو التصور الديني، الذى يرتبط – تاريخيا- عند البعض بالتركيز على سلوك الإنسان الفردي والروحي، والذي يهمل دور منظومة القيم التى ترتبط بالواقع وظروفه، فيرتبط مفهومه للتغيير بتغيير سلوك الفرد دون تغيير ظروف الواقع. والصواب هو الجمع بين النظريتين، لأنك إذا غيرت الواقع وجعلت ظروفه تدفع الإنسان نحو منظومة قيم إنسانية أعلى، سوف يكون من اليسير على الناس اتباع منظومة سلوك فردية قويمة. الخطورة أن هناك تجارب من أصحاب النظريتين الدينية أو المادية (و ربط الدين بالنظرية نقصد به التصور البشرى لتطبيق الدين، وليس الدين المنزل والمنزه من قبل الله سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام) تتبنى منهج الاستبداد مرحليا على أمل أن المستقبل قد يحمل النصر! فى روسيا سقطت أوهام الاشتراكية والشيوعية عندما تم قهر الإنسان؛ بدافع السعي لانتصار النظرية. وفى السودان وقع نموذج التطبيق الديني فى الفخ؛ عندما لم ينجح فى وضع تصور أو نظرية اجتماعية ، تتغلب على مشكلات الواقع؛ مما أدى لنجاح مؤامرة الغرب وانفصال الجنوب، كما تراكمت المشكلات المادية على الأفراد؛ أثر التركيز على نظرية الفرد دون الواقع وظروفه. مصر كانت تملك الفرصة الذهبية لتقديم نموذج اجتماعي عالمي جديد؛ قائم على تغيير الإنسان والواقع معا، من خلال ثورة 25 يناير، عندما عبرت نخبتها من نظرية الفرد صاحب القيم الإنسانية الأعلى (التضحية –الفداء- البسالة) التى تتغلب على ظروف مجتمعه، وفى نفس الوقت حملت هذه النخبة شعارات تغيير الواقع (عيش – حرية – كرامة إنسانية). تجمعت النخبة الثورية فى ميادين مصر من أجل منظومة قيم أفضل للجماعة، ولم تكن ثورة جماعية من أجل ظرف واقعي بعينه. نخبة هذه الثورة تربت داخل الحركة الطلابية غير المسيسة طوال العشر سنوات الأولى من القرن 21 لكن هذه النخبة الثورية تم إزاحتها –لضعف خبرتها السياسية- لصالح النخب السياسية المصرية التاريخية، التى تنتمي لنظريات تغيير الإنسان ممثلة فى كل من التيارات التى تنتمي للتصور الديني بتطبيقاته المتعددة، والتيارات التى تنتمي لتغيير الواقع ممثلة فى الأحزاب السياسية بمختلف تصوراتها القومية والاشتراكية والرأسمالية. كل الأمل الآن فى تطعيم المشهد السياسي ببعض النخب الثورية لتجاوز حدة الصراع ومرجعيته التاريخية، كل الأمل فى ألا يحاول تيار اعتماد الاستبداد كوسيلة متصورة لنجاح أيديولوجيته السياسية، ما لا يضعه البعض فى الحسبان أن الشعب – فى ممارسة سياسية ثورية - قد يسقط البديل السياسي للسلطة سريعا‘ إذا شعر بإعادة إنتاج المعادلات والقيم التى ثارت عليها ثورة 25يناير! كل الأمل فى بعض التوافق والتجرد من الذات، حتى لا يصاب الثوار باليأس ويقلبون المنضدة على رؤوس الجميع. الأمل فى أن التوافق قد يدفع البلاد فى الطريق الصحيح، طريق الجمع بين الاتجاهين المختلفين عبر تاريخ البشرية: تغيير الإنسان وتغيير الواقع. رابط دائم :