حين يصير الجنون ملجأ للعقل, ويصبح العبث واللامعقول هو المنطق الأوحد للمسار التاريخي والحضاري, وتتوجه الرؤي نحو توصيف ذلك العالم المعاصر في لحظاته المتسارعة كرجل أجوف مملوء بالعدم واللاشئ!! وتتوحد بؤرة الأفكار حول مأساوية النهاية انطلاقا من درامية المعطيات الممثلة لكيمياء الدمار السياسي المشهود فمن ذا الذي يعصم تلك السياسات الفوضوية الرعناء من حماقاتها؟ بل من ذا الذي يردعها علي الرهان الكوكبي وهي سائرة نحو التلاشي والغياب؟ بل من ذا الذي يطهرها من هوس القوة وعقائد الجبروت واستحواذ خواطر الطغيان والاستعلاء بالضعف؟ وهل من المتصور أن الارتقاء الحضاري يصحبه نزوع قوي نحو مسارات الدمار السياسي؟ وهل يمكن تغيير معادلة راسل القائلة بأن البشرية قد عاشت قرابة عشرين قرنا من الحروب ومائة واثني عشر عاما من السلام؟ إن الوثنية السياسية قد باتت تمثل قاسما مشتركا بين أطراف المحيط الدولي, فأصبحت المساعي والجهود لاتستهدف مطلقا إقرار العدل أو تكريس المساواة أو شيوع الحرية أو تأكيد الإخاء, وإنما تسير نحو غاياتها في إرساء قيم الابتزاز, والعنف, والإيمان المطلق بالقوة وحقوق السيادة, ونبذ المصالحة, والاطاحة بمعاني التواصل, ونسف الاعتداء بالاصالة التاريخية. والمتأمل في أغوار الواقع لابد له أن يستلهم يقينا وجود نظريات المؤامرة في صياغاتها المعاصرة, وماينبثق عنها عن فنون المراوغة وملاحم الفتن ومخططات التقسيم والتدويل والإحلال والتذويب. ولعل شيوع مصطلح الدول الفاشلة يعد اللازمة السياسية الليبرالية الجديدة الفاعلة في توليد أيديولوجية لاعقلانية تحاول اختراق العقل السياسي لتصبح إحدي مفرداته, بل لتمثل منطلقا محوريا في خوضه نحو تفسير العديد من القضايا الشائكة وتعليلها, وذلك مسايرة لمبدأ:( إن استطاعوا أن يجعلوك تطرح أسئلة خاطئة فليس لديهم بالضرورة قلق من الاجابات) كما قال توماس بينشون, كما أن ذيوع مصطلح الدول المارقة إنما يعني أول مايعني ذلك الانفلات الحاد من براثن المسار المقدس المرسوم بدقة واحتراف من تلك الدول التي تعتبر نفسها هي المثل والنموذج وربة الاعتدال والتوازن, ويؤكد بزوغ العنصرية المقيتة المشيرة إلي ضرورة الانصياع الحميم, وأن عدم التشيع والتبعية هو مايمثل الدافع الأوحد في اتجاه الرجعية وفقه التخلف, لكنه ليس حجرا علي الكيانات أو إهدارا للحريات السياسية أو طمسا لملامح الشخصية القومية, لذا فإن سرعة ارتداد هذه الدول إلي مرجعيات الدول الكبري هي حتمية تاريخية حتي تفارق اطواق الشر المستطير, كل ذلك استئناسا بشعار مؤداه أن كل شئ لنا ولاشئ لغيرنا, وهو شعار يبدو في كل عصر أشر مايقوله طغاة البشر حسبما أكد آدم سميث. ويتجلي من ذلك أن استخدام القوة كسبيل أوحد في محيط العلاقات الدولية هو فشل للسياسات بدلا من كونه أداة لها. وبناء علي ذلك, ما السبيل أمام المجتمع الدولي لإسكات موجات الغضب العالمي واحتوائها؟ وهل للدول الكبري أن تنفلت من سوداوية مسيرتها الاستعمارية التقليدية وتنهض نحو بث رسالة حضارية يحمل مضمونها استراتيجية للسلام العالمي؟ وما المكتسبات الفعلية للحروب بعدما صار استعمار الزمان له أولوية كبري علي استعمار المكان كما قال أوكتافيو باث؟ ومن ثم ما ثمار الدمار؟! ولماذا الإصرار التاريخي علي إعادة انتاج البربرية القديمة وتجاهل المنجز الحضاري؟ وهل يمكن أن يتحول المسار الاستراتيجي العام نحو مبدأ تقوية الذات وتقوية الآخر أيضا؟ وهل لاتتحقق السيادة إلا بإضعاف الآخر؟ ولماذا لم تبرز البراعة الذهنية علي الصعيد السياسي كما تجلت في المجالين التكنولوجي والمعلوماتي بينما الفاعل واحد في كليهما؟ وكيف يجتمع في عصر ما كل تجليات الفوضي مع منظومية التكنولوجيا الرفيعة علي مابينهما من التناقض والتضاد؟ ولماذا يمثل المساس بالأمن القومي للدول الكبري مساسا بالأمن العالمي؟ ومتي كان الاعتداد بالقوة هو الضمانة الحقيقية لاستتباب الأمن؟ ومني تكف الدول الكبري عن اختلاق الاتهامات التي تخولها السيادة الزائفة؟ وهل يسمح القانون الدولي بالوصاية السياسية علي الدول؟ وكيف تصبح صناعة الاعداء هي أسمي غايات السياسة؟ وهل يعني عدم تماثل القوة وتكافؤها سيادة الظلم وسحق الكيانات؟ وهل يحتاج عالمنا المعاصر إلي ثورة ثقافية يستعيد بها الثوابت الأخلاقية لتكون عنصرا مضادا لاستئصال نوازع الأنانية الدولية وحسم الصراع المحموم وتقليص استعراض القوة القومية وتشخيص أمراض السلطة؟