لا تحدث الثورة إلا في سياق تاريخي محدد وبالتالي لا يمكن فهم دوافعها ولا متابعة أحداثها وتطوراتها بغير, تحليل دقيق للمرحلة التاريخية التي قامت فيها. وإذا كانت الثورة يمكن بمصطلحات علم اجتماع المعرفة اعتبارها بمثابة النصText الذي ينبغي فك الشفرات لمعرفة منطقه الداخلي وتأثير عملية الاختمار الثوري علي حدوثه بالإضافة إلي تأثيرالعوامل الدولية عليه, فإن السياقContext هو المرحلة التاريخية التي وقعت فيها الثورة. وللتدليل علي صحة هذه المقولات العامة المجردة, يمكن لنا أن نشير إشارات موجزة لثورة يوليو1952 تبدو أهمية الكتاب في أنه رصد انتقال حر كة التفكير وحرية التعبير, إلي الفضاء المعلوماتي حيث مارسوا حرياتهم الكاملة في التعبير عن أنفسهم, وفي ممارسة النقد السياسي العنيف للنظم السياسية المستبدة وفي مقدمتها النظام السياسي المصري. لم تدرك هذه النخب السياسية الديكتاتورية بالقدر الكافي خطورة التحول الحضاري الذي حدث, بالانتقال مع المجتمع الصناعي إلي نمط جديد من المجتمعات هو مجتمع المعلومات العالمي. هذه الثورة التي وقعت عام1952 تكشف عن ملامح عملية تاريخية بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945 والتي تميزت بمطالبات الشعوب للتحرر الوطني بعد حقب طويلة من الاستعمار الأوروبي الذي غزا بلادا متعددة في العالم الثالث وفي مقدمتها البلاد العربية, بالإضافة إلي صعود شعارات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, بعدما شهدته أوروبا من فظاعات النازية والفاشية علي الصعيد السياسي والإنساني. ومن هذا كان شعار ثورة يوليو1952 الأساسي هو تحرير مصر من ربقة الاستعمار الإنجليزي غير أنه بالإضافة إلي ذلك رفعت شعار تحقيق العدالة الاجتماعية استجابة لمطالب القوي الشعبية التي انتفضت عدة مرات ضد الظلم الاجتماعي الذي مارسته طبقة كبار الملاك والرأسماليين ضد جماهير الشعب وهكذا بناء علي تحليل السياق التاريحي الذي حدثت فيه ثورة يوليو1952, نستطيع أن نتفهم بواعث قيامها وتطوراتها ومصيرها التاريخي. وإذا طبقنا المبادئ النظرية التي صدرنا عنها في بداية المقدمة, نستطيع أن نجد تطبيقا لها فيما يتعلق بثورة25 يناير الرائدة. فقد قامت الثورة التي فجرها شباب الفيس بوك لتصبح أول ثورة في التاريخ تنطلق من الفضاء المعلوماتي عبر الفيس بوك, لتغزو المجتمع الواقعي بأمواجها الهادرة, في ظل سياق دولي له ملامح محددة وظروف مصرية يمكن التعرف بدقة علي ملامحها. أما السياق الدولي فيتمثل في أن العالم تغير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة التي دارت طوال عقود بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي وقد أدت هذه التحولات إلي سقوط النظام الثنائي القطبية وبروز نظام أحادي القطبية تهيمن فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية علي العالم, بحكم قوتها العسكرية الفائقة ومبادراتها التكنولوجية وقوتها الاقتصادية. ونتيجة لبروز ظاهرة العولمةالتي تملأ الدنيا وتشغل الناس, تحول النظام الدولي ليصبح مجتمعا دوليا تمور فيه التفاعلات المتشابكة, بحكم الثورة الاتصالية التي جعلت العالم قرية واحدة صغيرة. ونتيجة لذلك ضاقت المسافة للغاية بين الدولي والمحلي وأصبح من المستحيل فهم أي حدث محلي أو إقليمي, بغير تحليل النظام الدولي في مرحلته الراهنة. ولذلك نشرت كتابا عن الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي( نهضة مصر2005) ليكون أساسا منهجيا يمكن أن يعتمد عليه الباحثون في تحليل وفهم المشكلات التي تجابه مجتمعاتهم. واتبعت ذلك بكتاب آخر عنوانه شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلي العالم الافتراضي ميريت2008. وقد حللت فيه أربعة تغيرات كبري لحقت ببنية المجتمع العالمي وهي الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلي نموذج مجتمع المعلومات العالمي والعبور من الحداثة إلي العولمة وبروز مجتمع المخاطر علي النطاق العالمي, وبروز نظرية جديدة للأمن القومي وأخيرا بزوغ قيم حضارية جديدة تتبناها أجيال الشعب. وتبدو أهمية الكتاب في أنه رصد انتقال حر كة التفكير وحرية التعبير, إلي الفضاء المعلوماتي حيث مارسوا حرياتهم الكاملة في التعبير عن أنفسهم, وفي ممارسة النقد السياسي العنيف للنظم السياسية المستبدة وفي مقدمتها النظام السياسي المصري, الذي أسقطته ثورة25 يناير بضربة واحدة وفي فترة بالغة القصر لم تتعد أسبوعين. ويمكن القول أن السياق العالمي الذي ساد قبل الثورة هيمنت عليه نظرية التحول الديمقراطي والذي يعني أساسا الانتقال من الديكتاتورية إلي الليبرالية والديمقراطية. وأسباب صعود هذه النظرية متعددة ولعل أهمها علي الإطلاق انهيار الاتحاد السوفيتي مما يعني السقوط النهائي لأعتي النظم الشمولية التي شهدها القرن العشرون. وهذا النظام الشمولي الذي سحق المجتمع في ضوء الشعار المعروف لا صوت يعلو علي صوت الحزب الشيوعي, لم يقتصر نفوذه علي الاتحاد السوفيتي فقط ولكنه امتد أيضا إلي دول أوروبا الشرقية التي حكمتها الامبراطورية السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية بالحديد والنار. إنهار الاتحاد السوفيتي, وكان منطقيا أن تنهار أيضا كل النظم الشمولية في أوروبا الشرقية, وأن تنتقل عبر طرق ودروب شتي من الديكتاتورية إلي الليبرالية والديمقراطية. وهكذا تحول تبلور التحول الديمقراطي كنظرية وممارسة في أوروبا الشرقية أساسا, وسرعان ما أصبح نموذجا يحتذي في مختلف قارات العالم التي تعاني بعض أقطارها من سيادة النظم الشمولية والسلطوية. ولم تفلت الدول العربية التي تسودها كلها تقريبا نظم شمولية وسلطوية من هذا التأثير الطاغي لنظرية التحول الديمقراطي. بل إنه يمكن القول أنه تحت تأثير مطالب الداخل في المجتمع العربي والسعي إلي الديمقراطية فرارا من جحيم الشمولية والسلطوية, ومن خلال ضغوط الخارج ممثلا اساسا في الولاياتالمتحدةالأمريكية, والاتحاد الأوروبي, اضطرت الدول العربية إلي الدخول في مسار الديمقراطي, ولكن بطريقة بطيئة للغاية ومتعثرة. وقد بررت النخبة السياسية الحاكمة العربية هذا البطء بأن التحول الديمقراطي السريع قد يضر بالاستقرار السياسي, كما أن الديمقراطية الغربية ليس ضروريا ان تتلاءم بالكامل مع الواقع العربي نظرا للخصوصية الثقافية العربية والإسلامية. غير ان احزاب وقوي المعارضة السياسية العربية في بلدان شتي, وفي مقدمتها مصر وتونس واليمن, لم تقتنع بحجج قادة النظم السياسية الشمولية, وأعلنت رفضها للتحول الديمقراطي البطيء والمتعثر, والذي لايغبر شيئا ذا بال في الواقع السياسي الديكتاتوري. غير أن هذه الأحزاب السياسية لم تستطع ان تهز جبال الديكتاتورية العربية الراسخة, بحكم القمع الشديد الذي لاقته من النظم السياسية الحاكمة, وتضييق حركتها ومنع سبل اتصالها مع الجماهير. ولم تدرك هذه النخب السياسية الديكتاتورية بالقدر الكافي خطورة التحول الحضاري الذي حدث, بالانتقال مع المجتمع الصناعي إلي نمط جديد من المجتمعات هو مجتمع المعلومات العالمي. وهكذا بعد ان تعثر التحول الديمقراطي نتيجة مقاومة النخب السياسية العربية الحاكمة, كان لابد للشعوب ان تبادر بالثورة علي الاستبداد العربي الراسخ, وهكذا قامت الثورة التونسية, وبعدها قامت ثورة25 يناير, لتقضي نهائيا علي نظرية التحول الديمقراطي وتثبت انه لم يكن هناك حل إلا بالثورة الشاملة!