لم تكن تعرف الهدوء أو راحة البال.. كان يشبه نهارها ليلها فالمحال لا تغلق أبوابها وحركة البيع والشراء لا تنقطع والزبائن يتوافدون عليها باستمرار.. أطلق عليها أسواق الجملة التي عرفت بأسعارها المتواضعة التي تناسب محدودي الدخل. إنها أسواق وسط البلد التي أصابها ركود شديد عقب ثورة25 يناير مما دفع الكثيرين لغلق محلاتهم بعد تفاقم الخسائر.. ما زال الزحام يسيطر علي المشهد لكنه يتوقف عند أبواب المحلات التي باتت تكتظ ببضائع لا تجد من يشتريها.. فما أسباب عزوف المواطنين عن الشراء؟ وهل تردت الأوضاع الاقتصادية لديهم إلي حد التركيز علي السلع الأساسية فحسب؟.. أم هي زيادة في الأسعار أصابت كل السلع في السوق؟.. من هنا وجهنا أسئلتنا لأصحاب المحلات بشوارع عبدالعزيز ودرب البرابرة والموسكي من خلال جولة لالأهرام المسائي لرصد التغييرات التي طرأت علي أشهر شوارع تجارية في القاهرة.. شارع عبدالعزيز يستغيث بمجرد ما تدخل شارع عبدالعزيز أشهر شارع تجاري يبيع الأجهزة المنزلية والهواتف المحمولة بأسعار الجملة تتوجه إليك أنظار عمال المحلات يسألونك عما تريد شراءه يتلهفون لأي زبون جديد.. يترقبون تحركاتك ونظراتك للفت انتباهك.. البعض ينادي بما لديه من عروض.. وآخرون يعترضون طريقك يسألونك عن نوع البضاعة التي تبحث عنها. في البداية يقول محمد شوكت- عامل بأحد محلات الأجهزة المنزلية والاتصالات- إن حركة البيع انخفضت بشكل كبير في الفترة الحالية باستثناء أجهزة المحمول والاتصالات والفاكسات التي مازالت الأكثر مبيعا.. ونتوقع زيادة مبيعات السخانات والدفايات مع بداية فصل الشتاء. ويؤكد صلاح أحمد عامل بمحل أجهزة كهربائية أنه كانت هناك حركة طفيفة قبل العيد لشراء الديب فريزر بأنواعه المختلفة لتخزين اللحم, أما الآن فعادت حالة الركود التي اعتادتها السوق منذ نحو عام لتدهور الحالة الاقتصادية خاصة وأن الأجور تكاد تكفي الحاجات الضرورية كالطعام والشراب والعلاج, حتي أصبح تجهيز العرائس الآن في أضيق الحدود وبأقل الإمكانات. وقال علي محمود مدير محل أجهزة كهربائية إن نسبة المبيعات انخفضت بنسبة50% بعد الثورة بل إن هناك محلات أغلقت أبوابها في الفترة الأخيرة واستغنت عما بها من عمالة لما تكبدته من خسائر, مشيرا إلي أنه إذا استمر الوضع القائم فلا شك أنه سيغلق محله أيضا. وأكد انه لا يتوقع استقرار الأوضاع في المدي القريب, خاصة وأن أحوال البلاد قد سيطر عليها الانفلات الأمني وإن كان قد تراجع عن ذي قبل, مضيفا أن الشارع قد تحول إلي جراج للسيارات علي عكس ما كان عليه قبل الثورة حيث كان لا يستطيع أحد الدخول بسيارته لشدة الزحام. وأشار محمد صابر- صاحب متجر نجف صيني- إلي أنه يفتح محله بداية من الساعة9 صباحا لكن البيع لا يبدأ إلا متأخرا لقلة الزبائن, موضحا أن هناك أياما لا تشهد زبائن علي الإطلاق حيث يشهد الشارع ركودا في حركة البيع والشراء, بالإضافة إلي نقص بعض أنواع السلع في السوق, مؤكدا تراجع الحد الأقصي لدخل المحل اليومي من6 ألاف جنيه قبل الثورة إلي1500 جنيه. وأضاف أن الشارع كان يستقبل تجار الجملة وزبائن من مختلف المحافظات كالمنيا وبني سويف وقنا حيث كنا نطلق علي يوم الجمعة الموسم الإسبوعي نظرا لشدة الإقبال وتوافد مختلف التجار وانشغال البائعين والزبائن بالبيع والشراء, وهو ما لم يعد يحدث الآن. ويؤكد أحمد عبدالفتاح عامل بمحل نجف- أن البيع يتوقف علي أيام المناسبات فقط, مشيرا إلي أن دخل المحل في اليوم بات ضئيلا للغاية حتي لا يكاد يكفي سداد الالتزامات من مصروفات شهرية كأجور العاملين والكهرباء والضرائب, قائلا: الناس يعيشون بالبركة! ونادي بسرعة تحقيق الأمن وتنظيم حركة المرور في الشارع لتهيئة الأجواء للزبائن للتسوق, داعيا إلي تفعيل القانون لأنه السبيل الوحيد الذي يضع حدا لمهزلة الفوضي التي يعاني منها الكل. الموسكي يئن من الباعة الجائلين حي الموسكي.. الذي أخذت شكل شوارعه طابعا مختلفا, حيث سيطر أصحاب المفروشات علي الشوارع لدرجة تعوق الحركة فيها وأخفوا ملامح المحلات حتي إن المارة يسيرون في طوابير نظرا لما تأخذه تلك المفروشات من حيز كبير في الشارع.. ويزيد الأمر سوءا وجود بلطجة يعاني منها الزبائن قبل التجار.. يقلول عكاشة جابر صاحب محل مفروشات إن حركة السوق طفيفة للغاية, وتراجعت الأرباح منذ نحو عامين لانخفاض متوسط الدخل اليومي بنسبة50% بعد الثورة,كما أن ما تشهده البلاد من أحداث شغب وانفلات أمني مستمر يؤثر علي حركة البيع والشراء, مشيرا إلي أنه بالرغم من ارتفاع أسعار بعض الخامات عقب ثورة يناير مثل القطن والبوليستر إلا أن معظم البضائع تباع بأسعار متوسطة فيما تكاد البطاطين هي السلع الوحيدة التي تشهد إقبالا محدودا لاقتراب فصل الشتاء. ويؤكد محمد فتحي عامل بمحل ملابس رجالي أن الأوضاع قد تزداد سوءا في بداية العام الجديد خاصة بعد أن شهدت السوق عدة مواسم متتالية كشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحي المبارك, فيما توقع توقف حركة السوق تماما بعد دخول العام الجديد. وقال إنه بالرغم من أن الأسعار في الموسكي في متناول محدودي الدخل إلا أن نسبة الشراء انخفضت بشكل ملحوظ لأنه مع غلاء الأسعار تصبح هناك أولويات لدي المواطنين..والملابس لم تعد ضمن هذه الأولويات,مشيرا الي أن العمال في المحل اعتادوا علي زيادة راتبهم الشهري كل عام إلا أنه تم تثبيته بعد الثورة بالإضافة إلي ارتفاع الأسعار في كل شيء الي الضعف. ويقول أحمد عبد العزيز صاحب محل سواريه منذ سنتين ونحن نخسر وندفع مصاريفنا من رأس مالنا, مشيرا الي انتعاش حالة السوق قبل الثورة. وأكد محمد حسين محام ويعمل بمحل عبايات أن صاحب المحل قام بالاستغناء عن ثلاثة عمال من أصل4 بعد أن تفاقمت الخسائر, مشيرا إلي أن الضرائب في زيادة مستمرة رغم حالة الركود التي تشهدها الأسواق حيث زادت هذا العام3 آلاف جنيه عن العام الماضي. ويضيف أن ركود السوق يرجع الي وجود باعة المفروشات أمام المحلات حيث زادت أعدادهم بشكل كبير بعد الثورة, خاصة أنهم يبيعون نفس بضاعة المحلات ولكن بأثمان أقل نظرا لعدم التزامهم بدفع ضرائب وتأمينات وتراخيص عمال, وهو مايجذب الزبائن للشراء منهم, وبالتالي يحققون نسب أرباح برغم وضعهم غير القانوني, مطالبا شرطة المرافق بالوجود المستمر واتخاذ إجراءات حازمة وفورية ضدهم لما يلحقونه من ضرر بأصحاب المحال بالمنطقة. وأشار إلي أن الباعة الجائلين ينتمون الي عائلة الطوابية من أسيوط, حيث استغلوا حالة الغياب الأمني بعد الثورة وتوافدوا واحدا تلو الآخر حتي سيطروا علي الشارع وأصبحوا يمارسون نوعا من البلطجة المتمثلة في وضع اليد علي قطعة من الأرض ثم تأجيرها بحوالي2000 جنيه في الشهر أو بيعها كما أن أغلبهم شركاء في المحلات ويحصلون علي نصيب من الدخل. من جانبه كشف المهندس حسن الشاطر رئيس حي الموسكي تواطؤ أصحاب المحلات مع الباعة الجائلين, حيث أن وجود هؤلاء الباعة مرتبط بشكل وثيق برضا أصحاب المحلات والاتفاق معهم, مشيرا إلي أن وجودهم بحي الموسكي يمتد لأعوام عديدة فهي ظاهرة ليست جديدة. ويؤكد أسامة بدير مدير إدارة شرطة المرافق علي الوضع غير القانوني لهؤلاء الباعة الجائلين إلا أن محافظة القاهرة تنسق مع مديرية الأمن لإيجاد أماكن وأسواق بديلة لهم علي أطراف المدن, مؤكدا وجود شرطة المرافق باستمرار مع قيامها بعمل حملات أمنية مكثفة من حين لآخر لضبط الأوضاع وتنظيم حركة البيع والشراء. ورفض اللواء أسامة الصغير مدير أمن القاهرة التعليق علي الأوضاع بحي الموسكي رغم أنه علي بعد أمتار من مبني مديرية الأمن, قائلا: هذا ليس من اختصاصي. وأوضحت دكتورة هبة نصار أستاذة الاقتصاد ونائبة رئيس جامعة القاهرة أن سبب ركود الأسواق مرتبط بالمناخ العام والأوضاع الحالية التي تعاني منها البلاد حيث الانفلات الأمني وارتفاع الأسعار مع ثبات المرتبات مما جعل التركيز من جانب المواطنين علي السلع الأساسية فقط والتي تحظي بمعدلات استهلاك مرتفعة في الوقت الحالي. وأضافت أن حالة الركود الاقتصادي أصابت الكثير من البلدان الأخري كالدول الأوروبية والأردن ولبنان, مشيرة إلي أن السبيل الوحيد لأنعاش الحياة الاقتصادية يكمن في تشجيع الإنتاج وتقديم تسهيلات للمنتجين مع تشجيع مناخ الاستثمار والذي لن يتأتي إلا بتحقيق الحد الأدني من الأمن والاستقرار, مؤكدة أن استمرار الاحتجاجات والإضرابات الفئوية بين الحين والآخر تؤثر بشكل كبير علي استقرار الحالة الاقتصادية. درب البرابرة.. الزبائن قليلون.. والبقشيش في النازل.. درب البرابرة الذي كان مصدرا للبهجة والسرور حيث كان يتوافد إليه المواطنون بمختلف طبقاتهم لشراء مستلزمات الأفراح والسبوع والحفلات, انقلب حاله ليرسم ملامح الحزن واليأس علي وجوه التجار الذين عجزوا عن إيجاد سبيل لتصريف بضاعتهم وأصبحوا يقضون يومهم في انتظار الزبائن.. يقول رضوان حلمي عامل بمحل مستلزمات السبوع إن الركود أصاب محلات درب البرابرة منذ الثورة, مشيرا إلي أن متوسط الدخل تراجع من2000 جنيه قبل الثورة إلي500 جنيه الآن نظرا لتدهور الأوضاع, وقلة عدد الزبائن. وأضاف حلمي أنهم يبيعون سلعا ترفيهية أصبح المواطن الآن في غني عنها في ظل تدهور الحالة الاقتصادية لغالبية الشعب المصري وارتفاع أسعار السلع الأساسية كالغذاء والشراب و الملبس, مشيرا إلي أنه رغم رخص أسعار بضاعتهم إلا أن نوعية الزبائن تميل إلي الطبقات المتوسطة والغنية حيث يتطلعون إلي شراء المنتجات الأرخص ثمنا وبأعداد قليلة جدا فعلي سبيل المثال يكتفون بشراء دستة من لوازم السبوع مكونة من6 أو12 تحفة فقط, بخلاف ما كانت عليه الأوضاع قبل الثورة حيث كانوا يشترون بكميات ضخمة تصل إلي300 تحفة بتشكيلات متنوعة.. ويؤكد سيد شحاتة عامل بمحل اكسسوارات السبوع والأفراح أن الأوضاع قد تبدلت بعد الثورة, فكان درب البرابرة يشهد ازدحاما شديدا في كل الأوقات, ولكنه الآن يشهد حركة طفيفة جدا, وأصبح الزبائن لا يشترون إلا بعد فصال ومماطلة وصولا لأقل الأسعار, وهو مايجبرنا في أغلب الأحيان علي التساهل معهم من أجل البيع حتي لو بأرباح زهيدة, مشيرا إلي أن أسعار مستلزمات السبوع تبدأ من25 جنيها للدستة وتصل إلي36 جنيها. ويقول نبيل عبد الرحمن عامل بمحل مستلزمات حفلات إنه كان يأمل في تحسن الأوضاع بعد الثورة إلا أنها ازدادت سوءا مستنكرا قرار الدكتور هشام قنديل رئيس مجلس الوزراء بغلق المحال التجارية في العاشرة مساء لأنه سيزيد من معاناتهم حيث يبدأ الزبائن الشراء من بعد صلاة العشاء, موضحا أن الكل أصبح يعاني من الحالة الاقتصادية علي حد سواء فالدخل لا يكفي لتغطية المصروفات. وقال محمد سعد عامل بمحل مستلزمات سبوع وأفراح إن البائعين يقضون يومهم ما بين تصفح الجرائد والتحدث في الهاتف, ثم تبدأ حركة بيع طفيفة بداية من التاسعة مساء, كما أن جميع المواسم أصبحت تشبه بعضها البعض فكنا ننتظر فصل الصيف لزيادة حركة البيع والشراء إلا أن الركود أصاب جميع المواسم. وأضاف أن صاحب المحل الذي يعمل به تكبد خسائر تقدر بمليون جنيه منذ بداية الثورة, ولكنه لا يستطيع غلق المحل لعدم وجود مصدر آخر للرزق, مؤكدا أن العمال كانوا يعتمدون علي البقشيش من الزبائن نظرا لضآلة راتبهم الشهري, و الذي أصبح نادرا في الوقت الحالي, قائلا: حتي البقشيش قل.. إن الله مع الصابرين! وأضاف أن أعمال الشغب وتصاعد حدة الإضرابات والاحتجاجات تؤثر سلبا علي حركة السوق بشكل عام, داعيا المسئولين لوضع حد لهذه الإضرابات لضمان استقرار البلاد. وأشار علي صبري عامل بمحل نجف إلي أنه لم تعد هناك سوق فالأوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم ولا نشعر بتحسن, فتبدأ ساعات العمل من10 صباحا و حتي11 مساء وتمضي أيام دون بيع نجفة واحدة, قائلا: من يرضي بهذا الوضع؟!.