مظلوم أنت أيها الحمار... وصفوك بالبلادة والغباء وعدم الفهم بحيث أصبحت مثارا للتندر والسخرية والاستهزاء. ومن هذا المنطلق جار عليك بنو الانسان فأرهقوك بالمزيد من الأحمال فوق ظهرك, واعتلوا ظهرك بأجسامهم البدينة فرادي وجماعات وقيدوك إلي عرباتهم بأحمالها الثقيلة لتجرها في صبر وأناة... ولم يكتف بنو الإنسان بهذا الظلم البين بل أوسعوك ركلا وضربا بعصيهم الثقيلة صارخين في تباه: حا ياحمار. هذا هو حال الحمار معنا نحن بني البشر, لكني أري في الحمار أشياء أخري... أري فيه الصبر والجلد وقوة التحمل وحسن الطاعة فضلا عن هدوء المسلك... فمن النادر بل شبه المستحيل أن تجد حمارا ثائرا أو منفعلا كالجمل أو الحصان مثلا أو حتي الماعز والخراف والأبقار... فالحمار دائما مطيع هاديء المسلك يسير دوما مطأطئ الرأس وكأنه يجري حوارا مع الأرض من خلال دموع حزينة تتأرجح في عينيه وهو يجر الأحمال والأثقال... ولا أغالي إذا قلت اني أري في الحمار فيلسوفا حكيما شديد الذكاء يكاد يشفق علينا نحن بنو البشر..! من هذه المقدمة انتقل إلي بعض ذكرياتي مع الحمار التي رسخت لدي مفهوما بأنه من أذكي الحيوانات... عام1979 كنت أحتل موقعي كضابط احتياط بقوات حرس الحدود لحماية الاسلاك الشائكة المهترئة الفاصلة بين مصر وليبيا أعلي هضبة السلوم وكنا في مكان ناء يكاد يقترب من واحة جغبوب الليبية المصرية الأصل التي تمت مبادلتها أيام الملك فؤاد بهضبة السلوم! في هذا الوقت كان الوضع شديد الحساسية تطور إلي مناوشات عسكرية فيما بعد... وكان التراشق بالكلمات علي أشده بين السادات والقذافي... وقتها صور الخيال المجنون للقذافي أنه سيغزو مصر فإذا به يضع أمامنا كما رهيبا من الاسلحة المختلفة التي جاء بها من الاتحاد السوفيتي.. بشوكها كما يقولون.. ... في وضع كهذا كان لابد من الحيطة والحذر واليقظة والانتباه التام فضلا عن الأوامر الصارمة الصادرة لنا بتأمين الحدود تأمينا كاملا خصوصا وأن أحد الأشخاص قد تسلل من الحدود الغربية ووصل إلي مجمع التحرير مفجرا قنبلة به! كنا لا نعرف للنوم أو الراحة سبيلا إلا في لحظات خاطفة وكان الجنود في قمة الرجولة والمسئولية وهم يتحملون أمانة الدفاع عن حدود بلادهم... وكنا كضباط دائمي المرور عليهم لتلبية طلباتهم وامدادهم بالماء والغذاء والذخيرة مع الإلمام الكامل بما يستجد من أمور لاطلاع القيادة عليه. في هذا الوقت رأينا ظاهرة غريبة عرفناها من البيئة المحيطة بنا هي أن بعض أفراد القبائل الموجودة بالمنطقة كانوا يعتمدون علي تهريب البضائع في حركة يومية لا تنقطع, وكانوا غالبا يستخدمون السيارات العالمية ذات الدفع الرباعي التي تمكنهم من السير فوق الاحجار الناتئة واجتياز السهول والوديان بعد أن يكونوا قد عبروا السلك من أماكن يعرفونها جيدا. وحين ضيقنا الخناق عليهم تماما ومنعنا عبور السيارات ومصادرة كل ما يقع في ايدينا منها, وقد حفرنا حفرا عميقة طولية في كل مكان يمكن التسلل منه لتكون مصيدة لتلك السيارات... ازاء هذا لجأ المهربون إلي حيلة أخري غريبة وجديدة علينا... هذه الحيلة تعتمد علي الحمار... وبالمناسبة كانت أسعار الحمير غالية ومرتفعة جدا في هذا المكان... كان الحمار يسير منفردا قاطعا المسافة بين بلدة مساعد الليبية والسلوم المصرية حاملا علي ظهره المزيد من أحمال وبضائع التهريب. كان الحمار يقطع تلك المسافة الكبيرة في عدة أيام لأنه يبتعد تماما عن بوابة المرور الرسمية متواريا خلف الهضاب إلي أماكن سحيقة في أقصي الجنوب... واذا ما نجح في العبور عليه أن يعود أدراجه شمالا وصولا إلي هدفه..! وكل حمار كان يعرف تماما طريقه المحدد الذي سيقفز منه من وإلي الأرض المصرية. والمثير للدهشة أن جميع حمير المنطقة مشقوقة الأنفين تماما... اذ يجري لها المهربون عمليات جراحية وهي مازالت جحوشا صغيرة بأن يفتحوا فتحا طوليا كبيرا في كل فتحة أنف ليبقي الأنف مشقوقا أو.. أشرم كما كنا نسميه وهذه العملية الجراحية التي يجبر عليها الحمار تجعله عديم الصوت تماما في حالة النهيق فإذا ما أراد النهيق كما هي عادته لا يصدر عنه سوي هواء الزفير فقط وبهذا لا يثير انتباه أحد إليه. من خلال عملنا الأمني المكثف كنا نقوم بإلقاء القبض علي الحمير التي تقع في ايدينا, ونسلم ما عليها من مضبوطات لجهات الاختصاص ثم نستفيد من الحمار بأن نلحقه بالخدمة معنا... وكان عمل الحمار محددا في استخدامه للركوب أو نقل بعض الاغراض ومنها جراكن الماء والوقود أو بعض أعشاب الشجر الجافة التي نجمعها من الصحراء لنشعل بها الكانون لإنضاج الطعام أو تسخين المياه. عصر أحد الأيام كنت جالسا مع مجموعة من جنودي وضباط الصف فوق تبة عالية تتيح لنا رؤية ومتابعة الجانب الآخر من الحدود... فاذا بنا نلمح حمارا كبيرا يبدو أنه مدرب بشكل جيد.. اقترب الحمار من السلك واعتلي تبة مقابلة موجودة امامه.. نظر الحمار بداية إلي مكان الحفرة لدينا مدققاس في حافتها المرتفعة بعض الشيء التي يبدو انه سيعبر منها.. توقف الحمار تماما ناظرا إلي المكان بعناية فاذا به يلمحنا فما كان عليه سوي أن هبط تماما واختفي عن انظارنا... مرت دقائق ليعاود الكرة من جديد واختفي من جديد.. أمرت من حولي بالهبوط اسفل التبة والانبطاح ارضا لكي نراقب الحمار دون أن يرانا.. مرت دقائق اخري صعد الحمار بعدها برأسه فقط فلما اطمأن لعدم وجود أحد ارتفع بجسمه المحمل بالاثقال شيئا فشيئا.. توقف لبرهة وهو يدور بجسمه في سائر الارجاء وعيناه تمسحان المكان.. كان رافعا رأسه إلي أعلي ومشنفا اذنيه وكأنه جعل منهما رادارا... حين اطمأن الحمار ان الامور تمام سار بخطوات هادئة علي حافة الحفرة حتي اجتازها ثم اطلق ساقيه للريح بحمله المثبت جيدا فوق ظهره.. سريعا أدرت محرك احدي السيارات القريبة وانطلقت خلف الحمار ومعي بعض الأفراد.. ظل الحمار يجري بأقصي سرعته محاولا الهرب.. كانت حركاته لولبية ونحن نتعقبه.. في النهاية خارت قواه تماما ونال منه التعب ولم يعد قادرا علي الحركة... هنا فقط توقف الحمار في احترام وأدب جم وكأنه لم يفعل شيئا.. كان يلتقط أنفاسه اللاهثة ناظرا الينا كيلا نصيبه بمكروه.. طبعا قبضنا عليه وتركناه يستريح بعض الشيء وقدمنا له الماء والاعشاب الخضراء حتي هدأ وشملته السكينة.. حرزنا المضبوطات وأبلغنا مخابرات حرس الحدود بالواقعة التي سرعان ما تسلموها وألحقنا الحمار معنا بالوحدة. لا أكتمكم القول اني كنت ودودا معه إلي حد كبير.. كنت أربت علي ظهره ورقبته وأقدم له الطعام وكثيرا ما كنت استخدمه في تنقلاتي عبر المدقات الصخرية التي يتعذر فيها سير السيارات.. وكان الجنود كثيرا ما يستخدمونه في حمل الاعشاب التي يقطعونها ويجمعونها كل صباح.. فضلا عن جراكن الماء والوقود. ذات ليلة أوقفنا الحمار في المكان المعتاد الذي اعددناه له.. كنا نتركه حرا طليقا بلا حبل يلتف حول رجله أو رقبته.. كنا نقدر انه سيتحرك ليتناول بعض الحشائش أو يرتوي بالماء حين يصيبه العطش. صحونا في الصباح علي خبر اختفاء الحمار.. فتشنا في كل الارجاء دون جدوي.. قطعنا مسافات طويلة في كل الاتجاهات دون أن نعثر له علي أثر. الحمار باختصار مل حياتنا الشاقة وتحين الفرصة للهرب.. آثر الحمار ان يعود إلي أهله وأصحابه.... لم تنجح معاملتنا الطيبة له في أن تبقيه معنا فهرب إلي اصحابه لأن بينه وبينهم عيش وملح.