لم يتم تعريفه من خلال جذره الفلسفي وأرضيته الاجتماعية فإن هذا التعريف محكوم عليه بالبوار, ثم إن أي مفهوم عندما يتزاهي ويظهر, فهذا يعني أنه يريد أن يطفئ مفهوما آخر. حين تقول التنوير, يبقي الظلامية, لكن التنوير لا يقدم المسافة كلها, لأنه يقدم المسألة كقضية فكرية, بينما الحقيقة أن ما نواجهه معارك اجتماعية حقيقية, هذه دعوة لتصحيح ما قد يظن البعض أنها قد تكون هاديات مثل فكر التنوير والحداثة وكلها خردوات مغشوشة. * هل هذا يعني إعادة تعريف الأولويات؟ ** لو دخلنا في إعادة تعريف الأولويات لن ننتهي, القضية الآن هي قضية خبز, وكوب ماء نظيف, وهواء غير ملوث, وطعام غير مسرطن. * أليس التحدي هو العقول؟ ** هذه مسألة أساسية, فعلا هي قضية عقل في مبتدئها وخبرها, لكن إذا قصرته عليه فلن يتحرك الأمر كثيرا. * إذا كنا ننظر للمستقبل فالأكيد أيضا أننا بحاجة إلي رؤية عريضة للواقع.. كيف ترسم ملامحه؟ ** الأيام المصرية حبلي بالأحداث, والآفاق ملبدة بالنذر, وتتشابك قضايا ومشكلات متعددة مثل اختزال دور الدولة, وتعاظم الفساد, والجرأة علي المال العام, وتآكل مشروع الوحدة الوطنية الذي تأسس في إطار الحركة الدستورية المعادية للاستعمار, وعدم القدرة علي إنتاج توافقات حول الحدود الدنيا في علاقاتنا بذواتنا, وتاريخنا, إلي جانب الاخفاق في تجديد وتفعيل شكل النظام السياسي الملائم, والعجز عن إدارة التنوع والتعددية بأطيافها, وتآكل حجم ووزن ودور الأحزاب السياسية, والخلل في أنظمة التعليم والإعلام والثقافة.. إلخ.. وكلها لم تسهم في الخروج من مأزق الحاضر, أو تجاوز رهاناته المتعثرة. * كيف نخرج من هذه الحالة التي وصفتها؟ ** الأمر يتعلق بالفقراء والعمال والفلاحين والطلبة والمثقفين العضويين, وهم فتحوا بشارة الوعي علي مصراعيها في تاريخ مصر الحديث, بدلا من شيوع تفتيت القضية الوطنية لكسر صغيرة كحقوق الطفل, وتمكين المرأة, وانتشار دكاكين الدفاع عن حقوق الإنسان كفطر سام وتحول المناضلين إلي نشطاء. * وكيف تقرأ ما تشهده مصر من حركات احتجاجية اجتماعية؟ ** المشهد السياسي في مصر بوجهين: رسمي شديد الجمود تراجعت فيه المشاركة السياسية من خلال الأحزاب, وآخر حيوي يتمثل في تصاعد حركات الاحتجاج كمظهر لحالة من الحراك السياسي. وقد تنوعت هذه الحركات ما بين الوقفات الاحتجاجية والاعتصام, والاضراب وتحرير التوكيلات, وشملت فئات عديدة مثل العمال وموظفي الضرائب والأطباء وأساتذة الجامعات, وامتدت إلي معظم المحافظات, ونجح بعضها في تحقيق أهدافه المطلبية مثل عمال النسيج في المحلة, وقضية مصنع أجريوم وموظفي الضرائب العقارية. * لكن هذا الوضع لم يصل بشكل واضح إلي النقابات المهنية؟ ** لا.. انتقل إلي التنظيمات النقابية, وهي تسعي إلي رفع الحراسة وتفعيل دورها في برامج التنمية والدفاع عن حقوق أعضائها, والتعامل مع العمل النقابي في إطار العمل الوطني العام. * وكيف تقرأ المشهد القادم؟ ** ينبغي عدم التدافع في تصور المستقبل, لكن يمكن الحديث عن احتمالات مستقبلية. * مثل ماذا؟ ** عبر ثلاثة مشاهد, أولها أن يتم احتواء هذه الحركات, ومن ثم دخول مصر في مرحلة تحول اجتماعي مشوه, قد يدفع المجتمع إلي الانهيار, إذا تم العلاج فوقيا, وبعيدا عن التناقضات والمشكلات الحقيقية في الواقع. * والمشهد الثاني؟ ** الثاني هو مشهد المهادنة القائم علي امتصاص تشنجات أوجه الاحتقان, وتسويتها تحت تأثير مهدئ أو آخر, واستمرار واطلاق تعددية سياسية شكلية. * والمشهد الثالث؟ ** هو الخروج من المأزق ويظل مشروطا, بخيارات عملية قائمة علي تدابير محددة للفعل السياسي والاقتصادي والثقافي, عبر تحقيق المبادئ الديمقراطية, وقلم القانون, والحريات العامة, واحترام قبول التنوع, وصوغ إطار قانوني وإجرائي لإعادة الحرية والفاعلية للأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية. * وما رأيك في حركة التدوين, وقدرتها علي الفعل وتغيير الواقع في المستقبل؟ ** جماعات المدونين الشباب يعبرون عن أفكار جيل جديد, عبر نشر أخبار الاحتجاجات الجماهيرية المتنوعة, وتفكيك مفردات السياسة الصعبة, وتحويلها إلي مفردات سهلة الاستيعاب مما يجذب إليها مزيدا من الشباب. * ماهو الفعل الذي أحدثته؟ ** في الوقت الحاضر هناك حوالي مائتي ألف مدونة مصرية, يقدر عدد المشاركين فيها بنحو180 ألف مدون غالبيتهم من الشباب تحت سن الثلاثين وحتي العناصر الشابة في جماعة مثل الإخوان المسلمين تنامت جرأتهم علي النقد والاعتراض والجهر به علي المدونات والفيس بوك والمنتديات الإلكترونية. * ماذا يعني كل هذا؟ ** يعني أن فكرة المجال العام التي تنامت أيام ثورة1919 تحولت إلي فضاء معلوماتي جديد, أتاح مساحة لأصوات شابة, ينتمي أصحابها إلي توجهات سياسية مختلفة تزاول التعبير عن آرائها, مما يعني أنهم نشطوا في نشر الوعي السياسي دون أن يقتربوا من صنعه, أي دون العبور من الفضاء الافتراضي إلي الفضاء الواقعي. * وماهو دور المثقف في العبور إلي المستقبل الذي نريده؟ ** أولا: عدم الدخول في حواديت أو سرديات مثل سردية التنوير والاصلاح. ثانيا: علي المثقف ألا يتعامل مع الفاعليات الوطنية باعتبارها فكرا أو حركة. ثالثا: ألا يتعامل مع الواقع الواقعي والواقع الافتراضي وكأن هناك خلافا بائنا بينهما. رابعا: الإيمان إيمانا كاملا بقوي الشباب الجديدة.