القدس التاريخية مدينة صغيرة لا تتعدي مساحتها بضعة كيلومترات, غير أنها تختزل داخلها بعضا من أهم معالم التراث الديني للمسيحية والإسلام, فآثار المدينة وأحجارها, وقبابها, ومناراتها, ومآذنها التاريخية دلائل لا يمكن محوها إلا بإزالة المدينة نفسها, والمدينة تضم أيضا بعض الذكريات اليهودية, لكن ولأسباب تاريخية عديدة لا يعززها أثر قائم أو حتي بقايا مندثرة. والقدس.. المدينة التاريخية.. كانت قائمة قبل وجود الأديان الثلاثة, فقد كانت موجودة قبل ظهور القبائل العبرانية في المنطقة, وكان اسمها الكنعاني أور ساليم, أي مدينة السلام, غير أنها أصبحت مع مرور التاريخ مدينة مركزية للأديان الإبراهيمية الثلاثة, والأهم أنها أصبحت قضية القضايا للجميع, فهي كانت بمثابة المكان التأسيسي لبدايات الأديان الثلاثة, كما أنها, وللأسف الشديد, عند كثيرين من أصحاب الديانات الثلاث المكان المثالي لنهاية العالم المادي, دمار الأرض وما عليها. ومفهوم نهاية العالم يشكل جزءا مهما في الأديان الإبراهيمية الثلاثة, فهو بالنسبة لليهود نهاية لكل أشكال الشر المناوئة للحلم اليهودي بقيام مملكة المسيا المنتظر, وهو بالنسبة للمسيحيين نهاية عالم الشر وشهوته التي ستزول للدخول في الحياة الأبدية مع الله, بينما هو للمسلمين لحظة فوز الأتقياء بجنة الخلد المعدة للمؤمنين. ولأصحاب الديانات الثلاث الحق كل الحق في الاعتقاد والإيمان بنهاية العالم, كما يعتقد كل فريق منهم, إلا أن المفارقة أن هناك شبه اتفاق بين جميعهم علي شكل هذه النهاية, إن هي إلا نهاية كارثية تنهي علي الحياة جميعها, وبالقطع لا أنا ولا غيري يستطيع الجزم بصحة ما يدعيه مؤلفو كتب نهاية العالم وخطباؤه في الأديان الثلاثة, فلكل دين علماؤه الذين يفحصون ما يكتب وما يقال عن دينهم, لكن المتاح علي الورق والاسطوانات والفضائيات يؤكد أن هناك علي الأقل بعض الفئات من الأديان الثلاثة تؤمن بسيناريو النهاية التدميرية للعالم عبر كوارث كونية, وحروب عالمية بين الخير والشر. والواقع أن هذا الشكل من التفكير التدميري بدأ وانتشر في الأوساط المسيحية في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر, ثم تحول إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية ليشكل تيارا قويا في الأوساط الدينية المحافظة أو ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية اليمين المسيحي, غير أن أخطر ما يحدث الآن نتيجة لهذا التأويل الديني المنغلق أن انتشرت هذه الثقافة الدينية التدميرية في بعض المذاهب المسيحية الكلاسيكية الأرثوذكسية والكاثوليكية, كما أنها وجدت لها طريقا في بعض المنابر الإسلامية. أصبحت لدينا الآن فرق من جميع الأديان تجعل من الحروب الدامية بين قوات الشر وقوات الخير عنوانا, وتنتشر بينها الأفكار والنظريات التي تصور الأحداث التاريخية الزمنية وكأنها تعمل في إطار قدري يدفعها دفعا باتجاه المعركة الأخيرة هرمجدون بين الخير والشر, تلك التي تنتهي بالانتصار النهائي لقوي الخير كما يراها كل فريق. وقد كان من نتائج هذا التصور أن تداخل السياسي مع الديني/ الروحي في تبرير المواقف السياسية علي كل الساحات بحيث أصبحت الحياة الأبدية أو النعيم الآتي محركا سياسيا للحياة علي الأرض, وأصبح بالإمكان تبرير الإبادة العرقية, وقتل الآخر, لا لشيء سوي أن القتل جزء من التدبير الإلهي لنهاية العالم, ومن ثم يصبح للمتدين أحد طريقي, إما أن يشترك بشكل إيجابي لتسريع وتيرة نهاية العالم, أو أن يقف أمام الأحداث والسياسات الدموية المرعبة والحمقاء باعتبارها قدرا إلهيا لا يمكن إيقافه لأنه يسير وفق المخطط السمائي لنهاية العالم. والأمر أصبح خطيرا وخطره وشيك, فسيناريوهات نهاية العالم في الأديان الثلاثة تتقاطع في الشرق الأوسط منذ ظهور الحركة الصهيونية, لكنها أصبحت أكثر تأثيرا في الثقافة الدينية, وأكثر خطرا منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام1948( الحدث الذي يعتبره الأصوليون البروتستانت الأمريكيون العلامة الإلهية الكبري لقرب نهاية العالم). هكذا تبني الجميع سيناريو المعركة العالمية الكبري هرمجدون لتكون نهاية العالم في منطقة الشرق الأوسط, وهكذا دفع البعض عن قصد بهذه الثقافة التدميرية للمنطقة, وهكذا كتب ووعظ وخطب الكثير من البسطاء والجهلاء يدعمون دون أن يدروا أكثر الأفكار تدميرا لبلادنا ومنطقتنا وعالمنا دون أن يتوقف أحد ليسأل: وما هي مصلحة الأديان أيا كان الدين في التدمير وفي الكوارث؟ هنا تكمن أهمية القدس, ففي إنقاذ القدس من المصير المظلم إنقاذ لهذه المنطقة من العالم من الدمار, وإنقاذ للبشرية من تنفيذ سيناريوهات نهاية العالم الهستيرية, وهو ما لن يحدث إذا استسلم المثقفون للإرهاب الفكري الذي يروجه اليمين الديني في أي من الأديان الثلاثة.