تعلمت من الطبيعة أشياء كثيرة: رأيت الفصول تتعاقب ففهمت أن الدنيا دوارة, فقد تكون اليوم صافية وغدا صاخبة, ترعد وتزبد وتبرق وتمطر, ولكنها تعود دائما مشرقة, ويأتي الربيع في كل عام. وهناك من بني البشر من لا يفهمون نواميس الطبيعة ويبتغون دوام الحال, يجزعون حين تتقلب الدنيا, وييأسون حين تغيب الشمس وتعصف الرياح, وهناك من لا يفهمونها أكثر فيظنون أنهم يستطيعون التحكم في أحوال الدنيا وتغيير مسارها, فيعملون علي امتلاك الأرض, وتوريث انجالهم وأحفادهم الحرث والنسل فلا يحصدون إلا الهباء. تعلمت أن خالق الكون واحد أحد: تجلت قدرته في وحدة التراكيب, فكما تدور الالكترونات الدقيقة حول النواة في ذرات المادة المتناهية الصغر تدور الاجرام الهائلة حول الكوكب النابض بالحرارة في مجموعتنا الشمسية, فالتكوين واحد, والنظام محكم, رغم التباين الشاسع في الحجم والأثر. تعلمت أن في الجوامد حياة: فالحياة لا تتوقف, والذرات في حركة دائبة داخل المادة الجامدة, تتجاذب وتتنافر, تدور وتهتز, وتتراص في أماكن معلومة وتتبادل المواقع أحيانا, مثل ما يحدث بين الناس في الحياة الملموسة. تعلمت ان الاتحاد قوة, والتضامن والتضافر يصنع العجائب, فرأيت ذرات الكربون( المحتوية علي الكترونات تواصل أربعة تدور حول البروتونات الكامنة في قلب النواة) تصنع الفحم الأسود الداكن حين تتراص في شكل بلوري سداسي بينما إذا تراصت نفس تلك الذرات الكربونية في ترتيب مكعبي فانها تصنع الماس المتلأليء الذي يخلب الأبصار. تتباين خواص الفحم والماس كالتباين بين الليل والنهار, فقطعة الفحم أو الجرافيت يسهل خدشها وكسرها وتفتيتها وحرقها, وتمتص كل الضوء الساقط علي سطحها فتظهر معتمة مظلمة, بينما قطعة الماس صلبة جامدة, تخدش ولا تخدش تستعصي علي الكسر والتفتيت والحرارة, تعكس الضوء كله فتبدو براقة مشرقة مبهرة. تفكرت في السر الكامن في اختلاف الشكل والخواص بين الفحم والماس رغم وحدة الأصل. وتأملت تشكيل الفحم حيث تتراص ذرات الكربون في طبقة سداسية التشكيل, تفصلها مسافة رأسية عن الطبقة العلوية المحيطة بها, تجد الذرات مترابطة في نفس الطبقة, ولكنها ضعيفة الصلة بغيرها من الطبقات, غير معنية بالبنيان المتكامل لذلك يسهل فصل رقائق الفحم عن بعضها البعض ويصير البنيان ضعيفا هشا. تأملت بلورة الماس حيث تتراص ذرات الكربون في شكل مكعبي, تكمن الذرات في أركان المكعب علي مسافات متساوية وكأنها تنتمي لوحدة واحدة دون تحيز أو انحياز, كما يترابط ذلك التشكيل الماسي بذرات اضافية تقع في اقطار المكعب, فتصبح بلورة الماس مترابطة متماسكة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا, وتكتسب قوة وصلابة فيصعب خدشها أو تكسيرها. هكذا المجتمعات بين الناس, كما المجتمعات المكونة من ذرات المواد, منها المتشرذمة الفاقدة للاحساس الجمعي, المرتبطة بالحزب المحدود أو الجماعة الضيقة أو الائتلاف المتصلب أكثر من ارتباطها بالوطن الجامع الرحب, فتشكل مجتمعات ضعيفة متفسخة هشة وأوطانا يسهل اختراقها وشرخها وكسرها تلك مجتمعات الفحم. ومنها المجتمعات المتماسكة المترابطة المتآزرة يعلي أفرادها احساسهم بالوطن والمجموع, ويأتي المجتمع المتسع في عقيدتهم فوق الحزب أو الجماعة أو الائتلاف فيصعب فصل تلك المجتمعات أو تفريقها أو تفتيتها تلك مجتمعات الماس. ويحتاج الماس لتكوينه إلي زمن طويل ودرجات حرارة هائلة وضغوط مرتفعة, تدفع الذرات إلي التقارب والتلاصق والتماسك وكذلك المجتمعات الماسية من البشر فهي تتعرض للمحن والضغوط والثورات والحروب لتخرج قوية عفية متماسكة مترابطة. فهل نعي العبرة والرسالة, ونستخلص من تراثنا الثري ما يربطنا ببعضنا بعضا, ونبدأ في غرس قيمة العمل الجماعي في وجدان الطفل الصغير ليشعر بمعني الانتماء والعمل في فريق, ونسعي لتدريب الأطفال في المدارس علي العمل معا, يفكرون معا ويحلون السؤال معا, ويستنبطون الإجابة معا, وينحون التنافس جانبا, فلا يهم من الذي توصل إلي الإجابة أولا, المهم أن نتوصل إلي الإجابة الصحيحة معا, ولحظتها نصبح جميعا متعلمين وفائزين. نحتاج إلي تطبيق طرائق التربية الحديثة لننزع ذلك الاحساس المدمر بالفردية عند من يسعون للأخذ دون تفكير في العطاء فهؤلاء حين يكبرون سوف يفكرون في أخذ ما لهم( وما ليس لهم) من حقوق وينسون ما عليهم من واجبات علي المعلم النابه أن يخمد نزعة التمايز بين التلاميذ وأن يشعرهم أن المساواة بين الأقران قيمة وفضيلة, حتي لا يصبح لدينا مجتمع مشوه برذيلة التعاظم, فهذا صاحب المعالي وذاك صاحب العظمة يصفع الناس ويركلهم ويسرق أرزاقهم ويزور إرادتهم ولو ثاروا عليه فانها مؤامرات الغرب والشرق. دعوات الاستقطاب( بحسن نية أو سوئها) والمليونيات المقسومة بين الميادين الساعية لاسقاط هؤلاء أو تأييد أولئك وفتاوي اهدار الدم المشؤومة لا تبني الأمم القوية بل تصب في خانة خسارة الوطن واهدار القوة والجهد والوقت تزيدنا وهنا علي وهن, وتأتينا مؤكدا بمجتمع مفكك كالفحم. وإذا كنا نتوق إلي مجتمع ناهض, فهل نعي درس الطبيعة ونسعي لمحاكاتها وبناء منظومة يترابط أفرادها ويتلاحمون ويتناغمون, فيشكلون جوهرة تخطف الأبصار والقلوب ليصبح مجتمعنا مترابطا منتجا ثمينا براقا مبهرا كالماس. جامعة الإسكندرية