توافد الاقارب من مساكنهم الهادئة, فحين غلقوا ابواب منازلهم وراءهم تركوا السكون يرفل مستمتعا بفسحة الزمان والمكان يتدفق الصمت مزيحا من ذاكرة الجدران جلبة الضخك والبكاء. يتفقد الأواني المستكينة في دواليبها, حتي ما كان منها مغرقا بالمياه ينتظر تنظيفه مكتئبا, عليه الآن ان ينعم بهدنة, الدمي الممزقة تراخت مكومة في كراتين محشورة وراء الكنب, الصمت ملك ورع يبارك رعاياه حتي العناكب التي تواصل غزلها ملفلفة بيوتها الواهنة بين قطع الاثاث. فرحت بالمهمة التي أوكلتها إلي سلفتي ام العريس فستتيح لي فرصة الابتعاد عن ضجيج الأقارب, نميمة الكبار المصحوبة بالفضول المحموم والتوقعات المسلم بها غير نزق المراهقين وهوس الأطفال. المهمة: عزومة قريبة لنا من بعيد كانت من صديقات حماتي وانقطعت عنا بعد موتها تذكرتها سلفتي قبل العرس بيومين قالت فرصة نصل رحمنا وتشاركنا فرحتنا. *** اعرف العمارة المقيمة فيها لكني لم ادخلها من قبل, المدخل رخامي واسع شبابيك السلم تبث هواء رطبا, اي صداقة نشأت بين حماتي وتلك القريبة, فبيتنا بطوابقه لايكفي ثمنا لشقة واحدة هنا, اذكر المرة الوحيدة التي رأيتها فيها كانت يوم عرسي ملامحها كابتسامتها هادئة, هدوء وقور, انيق, يسبقها عطرها المميز المجهول لدينا, اهم ما اذكره شنطة يدها الشمواه حين فتحتها ودست في يد حماتي النقوط, لابد ان سلفتي تمني نفسها بلحظة مشابهة. ضغط الجرس مساوية هندامي ماسحة حذائي في باطن ساقي, انفتحت ضرفة الباب لاجد امامي وجهها وقد تكاثرت عليه الغضون حول الفم والذقن والعينين, شعرت بعينها تنفذان إلي عظامي تراجعت تجاعيدها امام بريق عينيها ورنة الفرحة في صوتها هتفت في نفس تذكرتني. صافحتني ادخلتني اول غرفة بعد الاستقبال المبهرج بالستائر والاضاءة والموشي باللوحات التي لاخبرة لدي لمعرفة ان كانت اصلية ام مزيفة. اجلستني قبالتها وحذائي غائص في وبرة السجادة, وددت لو خلعت فردتيه وتخللت الوبرة الناعمة اصابع قدمي, بدا استفهام علي وجهها, حضرت اجابتي فلابد ستسأل عن الأسرة واحوالنا بعد حماتي, انطلق سؤالها: اترين هذه المنضدة ذات المفرش الكرشيه؟ هززت رأسي مبتلعة دهشتي فالمنضدة واضحة امام عيني, انتظرها تكمل تتمهل في نطق الكلمات, كأن هناك من يمليها عليها وهي بدورها ترويها لي أو انها تضغط علي ضروسها حتي لايفاجئها طقم اسنانها ويتخلي عن موقعه فوق اللثة. فوق هذه المنضدة المهملة الآن ولايجملها غير فازة بلا ورود كنت اوزع اوراق الكوتشينة علي الاصدقاء, اخلط الورق واعيد توزيعه كل مرة اتبين من يغش مع تكرار الادوار عرفت الغشاشين. ابتسمت كأني طرف في الصراع, ارتعشت شفتها السفلي: خجلت من مواجهتهم. نظرت إليها باستغراب رفعت كتفيها: لم تواتني الشجاعة لطردها, تخلف الطيبون واحدا إثر الآخر. قلت في نفسي لابد ان حماتي كانت من الطيبين, اكملت: لمحت بمعرفتي غشهم ضحكوا مفسرين الأمر مزحة امتنعت عن اللعب اعراب عن استيائي وعدم ترحيبي بهم, تقدموا اخذوا مكاني اداروا اللعب, كما يحلو لهم. كاد ينطلق سؤالي الذي لمحته في عيني, اين كنت؟ تنهدت: ارتكنت بمرفقي إلي البوفيه, اتابع تخليهم عن قواعد اللعبة, توغلوا في الغش والمقامرة انتبه علي الالم والدماء تنبت من اظافري التي قضمتها اثناء صمتي, حركتني صرحة من حلق اوشك علي مفارقة الحياة, دبت في اوصالي القوة طردتهم شر طردة. تهرب عيناها مني, تعبث يداها بجلبابها, رفعت رأسها, تقاوم الدموع الملحة, خرج صوتها مرتبكا بتأتاة ذكرتني بتجاعيدها: هددوني باتهامي بما اقترفوه, من يومها وليس لي هنا غير الترابيزة الصغيرة وعليها عدة القهوة, تريدين فنجانا؟ مضبوطا؟ لقهوتها رائحة الحبهان, ترشفها بتلذذ قاطعته: يأتون إلي الآن؟ ابتسمت علي اعتبار اني امدح قهوتها وكأنها لاتعرف عن من احدثها, ماتت علي لساني الجملة التي حملتني اياها سلفتي شرفينا عندنا عرس. *** اهرب من زحام البيت إلي العمل امام الأقارب اضطر إلي محايلة زوجي وعدم مجادلته في اوامره ليس تمثيلا مني بل تفاديا لبعثرة كرامتي امامهم, وقد استغل هذا, اخرج ملابسه الداخلية لاكويها إلي جانب ملابس الخروج التي اكويها من اول زواجي امتثل لطلباته الزائدة معلقة ابتسامة بلهاء علي شفتي وفي بالي العن نفسي الخائفة من الاهانة. في عودتي من العمل صاحبني ظلي ممدا بزاوية علي يميني فوق الرصيف اقترب من حافة الرصيف ينسكب ظلي علي الاسفلت افسح له, اخشي ان يتدلدق مني وتدهسه السيارات. ليلة العرس كانت اصوات الاقارب بحت من نقل الكلام بين ادوار بيتنا محرك المياه لم يسكن لحظة, يعدون انفسهم لارتداء الملابس المقتناة لزفة لم يتركوا شيئا علي التسريحة لم يستعملوه صغارا وكبارا تراصوا في الصفوف الامامية للمسرح المزين بالكوشة. وصل العروسان وسط جلبة العزف حين اخذت العروس موقعها في الكوشة ارتقت اختاها المسرح لمساعدتها في رفع الطرحة فوق الورود فبدأ وجه العروس القلب في زهرة, فردتا ذيل الفستان كلما انزل من جانب ارتفع من الاخر كاشفا عن ساقين لامعتين. توافد المعازيم لم تسلني سلفتي عن عدم حضور القريبة التي عزمتها, الكثيرات من المعارف قبلنني لم القهن من زمن بعدما قبلنني وقفن حائرات ماذا تفعلن لتأكيد وجودهن, ظلت شفتاي منفرجتين علي الابتسام كي يرضي عني الجميع. اوقفت الفرقة العروسين, خفضت الاضاءة ليرقصا, دارا علي المسرح, العريس ينظر إلي حذائه يخشي ان يدهس فستان العروس, العروس تخطو خفيفة, لاتعلم إلي اين تأخذها خطواتها بالحذاء الأبيض وذيل الفستان المتأرجح والطرحة الزاحفة. انطفأ نور العرس, اجتهد عمال الفراشة في كبس الكراسي فوق بعضها وتفكيك الكوشة, ارتبك الاقارب, اين ينامون؟! انتبهوا الان بعد ثلاثة ايام إلي ان البيت لايسعهم تسللت من بينهم دخلت شقتي اغلقت بابي ساعتها ادركت ان السكون المسيطر علي منازلهم يلملم نفسه عائدا إلينا. عزة دياب رشيد