في الأسبوع الماضي وفي المكان ذاته تحدثت عن كيفية محاسبة الرئيس المنتخب محمد مرسي, وذكرت أربعة معايير للحكم بها علي آدائه, وهي حماية الأمن القومي والمؤسسات المكلفة به, وثانيا حراسة الدستور والقانون والالتزام بهما دون تردد, وثالثا الالتزام بتطوير التحول الديمقراطي, ورابعا تحسين حياة المصريين اقتصاديا وسياسيا. والمتأمل لهذه المعايير يدرك علي الفور أنها تتعلق بترك فرصة للرئيس يقوم فيها بخطوات ملموسة تساعد في الوصول إلي تقييم موضوعي يستند إلي أفعال وتحركات علي الارض, وليس مجرد بيانات أو مواقف معلنة في الفضاء. غير أن الرياح لا تأتي دائما كما تشتهي السفن, وكثيرا ما تأتي العواصف العاتية التي تضرب السفن وتطيح بها وبمن فيها. تماما كما هو الحال الذي نعيشه الآن بعد القرار رقم11 الصادر من رئيس الجمهورية والذي أوقف القرار التنفيذي الذي أصدره المجلس العسكري بتاريخ15 يونيه تطبيقا لحكم المحكمة الدستورية العليا والذي قضي ببطلان مجلس الشعب كله نظرا للعوار الذي كان عليه القانون الانتخابي المنظم لانتخابات مجلسي الشعب والشوري. وللوهلة الأولي, وبعيدا عن الصدمة التي أصابنتا جميعا نحن أنصار الدولة التي تقوم علي توازن دقيق بين المؤسسات وتحكمها المصالح العليا لجموع المصريين والالتزام بالقانون وأحكام القضاء النهائية, تبدو خطوة الرئيس محمد مرسي وقراره بعودة مجلس الشعب الباطل بأكمله خطوة غير موفقة جملة وتفصيلا. فمن جانب تعد تعديا مباشرا علي حكم المحكمة الدستورية العليا وضربا بعرض الحائط للقضاء كمؤسسة لا يستقيم العمل في شئون الدولة إلا باحترام أحكامها حتي ولو كانت علي غير هوانا كأفراد أو كمسئولين, ومن ناحية ثانية هناك شبهة الحنث بالقسم الدستوري الذي أقسمه الرئيس وتضمن كما هو معروف التزاما بالقانون والدستور, وهي شبهة قد تتطلب حكما قضائيا في ضوء ما يتضمنه قانون العقوبات من عقوبات تشمل التنحية عن الموقع الوظيفي للموظف العام الممتنع عن تنفيذ حكم قضائي بات ونهائي. وثالثا أن القرار يفتح الباب علي مصراعيه لصراع سياسي بين المؤسسات وهو ما ظهرت مؤشراته بالفعل في ردة فعل نوادي القضاة الغاضبة والرافضة الالتفاف علي أحكام الدستورية العليا. ورابعا يدفع البلاد إلي أزمة كبيرة هي في غني عنها, وتزيد من حالة الارتباك التي يعيشها المصريون بفعل تجاهل أولوياتهم الحقيقية في الأمن والعمل وتحسين مستوي المعيشة وحماية البيئة, وفي المقابل التركيز علي أولويات جماعة الاخوان وحزب الحرية والعدالة وحسب وخطتهما المعلنة والمعروفة للجميع في التمكن من مفاصل الدولة والإمعان في السيطرة عليها. وحين تكون هذه هي البداية لحكم رئيس منتخب يفترض أن يعمل لصالح الشعب بأكمله تصبح العواقب وخيمة علي الجميع. والمثير في الأمر والذي يبدو غائبا عن أذهان الذين أفتوا للرئيس بإعادة الحياة لسلطة ماتت بحكم نهائي غير قابل لطعن, أنه كيف سيتقبل الشعب والمؤسسات الأخري في الدولة أي تشريعات أو تعديلات لقوانين نافذة بالفعل من مجلس الشعب كسلطة حكم عليها بالبطلان الكلي وكأنها لم تكن وفي حكم العدم حسب تعبيرات المحكمة الدستورية العليا؟ والمثير أيضا كيف سيبرر لنا أعضاء هذا المجلس الباطل عملهم الذي يفترض أن يكون متوافقا تماما مع الدستور وبدون أي انحراف عنه؟ وهل يتصور الرئيس ومن زينوا له فعلته هذه أن الشعب المصري سيقبل عن طيب خاطر قوانين وتشريعات من مجلس باطل وفي حكم العدم؟ هذه التساؤلات وغيرها تفضح تماما حدود القرار الرئاسي وتكشف حجم المأساة التي سيعانيها المصريون جميعا في المدي المنظور ما لم يتم التراجع الفوري عن هذا القرار إما طواعية, وإما تنفيذا لحكم قضائي نافذ لا يجوز التلاعب به. لقد تراكمت في الأيام الثلاثة الماضية جملة من ردود الافعال, بعضها القليل أيد القرار واعتبره ضربة معلم وتنفيذا لإرادة30 مليون مصري يفترض انهم شاركوا في الانتخابات البرلمانية, والبعض الآخر انتقد القرار ودعا المجلس الأعلي للقوات المسلحة للتدخل والانقلاب علي الانقلاب الذي قام به الرئيس تأكيدا لقناعة أن المسألة برمتها هي صراع سياسي بين جماعة الإخوان والرئيس وبين المجلس العسكري. ولما جاء موقف المجلس العسكري هادئا في صورة بيان دعا إلي احترام احكام القضاء والالتزام بالإعلان الدستوري المكمل, نظر البعض إلي الأمر باعتباره صفقة بين المجلس العسكري والاخوان, وهو ما نفاه بيان المجلس تماما. غير أن ما بين السطور في بيان المجلس يدفع إلي استنتاجين رئيسيين, أولهما أن المعركة أكبر من أن يخوضها طرف واحد حريص علي مدنية الدولة ويبقي الأخرون في حال فرجة وانتظار, وثانيا أن المعركة في جوهرها هي معركة المؤسسات ذاتها والشعب المصري معا, وبالتالي فلابد من تحرك شعبي منظم ومتصاعد حتي يوقف تماما القرار الرئاسي وأي نتائج تنتج عنه, وينتهي ذلك العبث بالدستور وأحكام القضاء. وتبقي كلمة أخيرة, فالمؤكد أن خبرة مؤسسة الرئاسة في بداية عهد الرئيس محمد مرسي هي خبرة منقوصة, وغير مدركة تماما لأبعاد إدارة دولة تحكمها قواعد صارمة, وتخضع للأهواء الشخصية والأولويات الخاصة بفصيل سياسي بعينه وليس بمقتضيات القانون والدستور. والأسوأ هو في الاعتماد علي مستشارين قانونيين يفتون ببساطة متناهية بالالتفاف علي أحكام المحكمة العليا ويقدمون النصائح البعيدة عن صحيح القانون وأعينهم مصوبة علي رضاء الحاكم وليس رضاء الله والشعب. وفي المحصلة تبدو مصر مقبلة علي الكثير من الأزمات السياسية والأوقات العصيبة. أعاننا الله علي تجاوزها بأقل الأضرار الممكنة.