رفعت الأم ابنتها ذات السنوات الثلاث عاليا وقذفتها وفتحت ذراعيها لتتلقفها وتحتضنها بحنان وسط صرخات الطفلة الممزوجة بالضحك, وحاولت الأم قذفها لأعلي ثانية لتلاعبها. إلا أنها تشبثت بملابسها, فضحكت الأم وهي تقول: عينيك جميلة أوي ياهبة يابنتي, وتبسم الأب وهو يجلس في المندرة يمين مدخل الفيلا التي يمتلكها, وشعر بالرضا, وأغمض عينيه, وتمتم بكلمات الشكر لله, ورجع بذاكرته كيف تدرج في أعمال تجارة الجملة بسوق العبور حتي أصبح من أثرياء قرية منشأة رضوان بمحافظة الجيزة, وظل يتقلب بمخيلته شريط الذكريات حتي غلبه النعاس, وفي الصباح اقترحت الأم أنه لا يجوز أن تكون ابنتها تلعب وسط أقرانها أمام الفيلا بدون أن يزين أذنيها قرط ذهبي جميل يليق بها وبجمالها, وبعد مناقشات مع الأب, الذي تبني نظرية أن البنت صغيرة علي شراء قرط كبير كما تريد الأم, رضخ في النهاية لرغبة الأم, وقال في نفسه: إن أهم شيء أن يري زوجته وابنته تغلفهما السعادة والهناء. وبعد أن غابت الأم في السوق حتي قبيل المغرب, عادت ومعها ثلاثة أطقم أحلي من بعض كما قالت, وجلست تلبس ابنتها الهدية قرطا.. قرطا, وسط ضحكات النساء من قريباتها ممن تجمعن مع أطفالهن للسمر معا, واللائي تناثرت كلماتهن لأم هبة أن من يراها يعتقد أنها عروسة صغيرة ذات5 سنوات, وانتشرت الضحكات وسط جو من البهجة, ولكن القدر كان يخبئ للأسرة السعيدة شيئا آخر, فمع شهرة الأب وسخاء يده مع الجميع, كانت هبة الصغيرة تخرج باستمرار للعب خارج سكنها, ولجمالها الأخاذ ذاعت ألفتها بين الجميع, وأحبها أطفال القرية جميعا, وأحبوا سماع الكلمات التي تخرج من فمها بطريقتها اللطيفة, وكان آخر النهار يعود معها أي من الآباء حتي بيتها. علي الجانب الآخر كانت بائعة جائلة تلف الشوارع خارج القرية بشكل أشبه بالتسول حتي قادتها قدماها المنهكتان إلي داخل القرية, فبدأت تتسول النقود من المارة, وما أن رأت القرط الذي تلبسه هبة حتي قفز الشيطان إلي رأسها, وتلفتت يمينا ويسارا تبحث عن صيدلية وهي تتابع الصغيرة حتي لا تغيب عن عينيها, وبالفعل رأت صيدلية تقع علي جانب الشارع من الجهة المقابلة, ودفعت نصف جنيه سريعا مقابل لاصقة طبية, وتتبعت الصغيرة وهي تري فيها إنقاذا مما تعانيه من احتياج وتقشف, واقتربت منها في هدوء ولاطفتها حتي سكنت واطمأنت إليها, وادعت أن لها شقيقة في عمرها نفسه ستذهب معها لتلعبا معا. وظلت تسايرها حتي أمسكت بيدها وخرجت بها بعيدا عن العمران, واستطاعت التحايل عليها حتي جردتها من قرطها, فنظرت لها هبة نظرة طويلة ذات مغزي, فوضعت اللاصقة علي فمها وهي تحذرها من أن تطلق صوتا, ثم فكرت في نظرة الصغيرة إليها ولم تتردد وقامت بإحاطة رقبتها بكلتا يديها وخنقتها, وتأكدت من أنها فارقت الحياة, ثم قامت بإلقائها وسط الزراعات ولاذت بالفرار, في الوقت الذي تحركت القلوب قبل الأجساد للبحث عن الصغيرة الجميلة وسط خيالات سوداء تلقي بظلالها علي الرءوس بدون أن يفصح أحد بما يدور برأسه خوفا علي الأم التي كادت تفقد عقلها في البحث عن ابنتها سائلة كل من تراه إن كان رأي ابنتها؟ ومتي؟ إلا أن أحد المزارعين عثر علي جثة الطفلة وعلي وجهها علامات الاختناق. وفي داخل سكن الطفلة فقدت الأم النطق شاخصة ببصرها في سقف الحجرة ترتعش شفتاها مع كل شهيق وزفير, وكلما انتبهت استعاذت بالله من الشيطان وغلبتها دموعها المنهمرة وسط الدعوات من حولها بالصبر. أما الأب فكان صامتا يستعيد صوت ابنته وضحكاتها وهمساتها وإشاراتها, ووقعت عيناه علي حذائها الصغير, واتسعت أحزانه. وكان اللواء أحمد سالم الناغي مساعد وزير الداخلية مدير أمن الجيزة قد تلقي إخطارا من العميد محمود فاروق مدير المباحث الجنائية يفيد بالعثور علي جثة طفلة ملقاة في الأراضي الزراعية بقرية منشأة رضوان, فانتقل المقدم حسام أنور رئيس مباحث منشأة القناطر إلي مكان الواقعة, وتبين أن الجثة لطفلة(3 سنوات). وكشفت التحقيقات عن أن الجثة لطفلة تدعي هبة, وأن والدها من أغنياء القرية, وأن دافع السرقة وراء ارتكاب الجريمة, وأن بائعة جائلة تدعي هند هي الجانية, فتم إعداد الأكمنة والقبض علي المتهمة, التي انهارت واعترفت بارتكابها الواقعة لمرورها بضائقة مالية جعلتها تتسول بالشوارع لجمع المال, وأنها استدرجت الضحية إلي مكان ناء ووضعت لاصقة طبية علي فمها وارتكبت الواقعة, فتمت إحالتها للنيابة لمباشرة التحقيقات.