كنت أظن وبعض الظن أثم كما هو معروف للكافة أن كل المصريين الذين وقفوا بالساعات حتي يشاركوا في اختيار من يرونه الأصلح للسنوات الأربع أو الخمس المقبلة, سيقبلون نتيجة أصواتهم عن طيب خاطر ودون تزوير. وكنت أظن أيضا أن الانتخابات الرئاسية رغم بعض التجاوزات الطفيفة كفيلة بأن تكون معلما من معالم النضج الديموقراطي للمجتمع ككل وليست مناسبة لإثارة الفوضي وإشعال الحرائق ورفع الشعارات عديمة المعني والمليئة بالضلال. وكنت أظن أن القوي السياسية التي خسرت أو حتي ربحت في الجولة الاولي ستمعن النظر في النتائج وفي تفاصيلها حتي تعرف أين هي مكامن قوتها وأين هي مكامن ضعفها, ومن ثم البناء علي الاستنتاجات لتحرك أفضل واكثر إحكاما في المرحلة المقبلة. وكنت أظن رابعا أننا كمصريين وبناء علي خبرة القبول العام بنتائج الانتخابات البرلمانية رغم كونها غير معبرة تماما عن الأوزان النسبية الحقيقية للتيارات السياسية والمجتمعية كما هي في الواقع, سنقبل نتائج الجولة الاولي من الانتخابات الرئاسية وفقا للقواعد الديموقراطية ونتعامل معها باعتبارها فرصة ومخاطرة في آن واحد وبما يفتح أمامنا مرحلة أخري للنضج الديموقراطي بمعناه الشامل. غير أن ظنوني, وهي كما ترون إيجابية في مجملها, لم تصمد كثيرا. فلم تمضي سوي ساعات علي إعلان النتائج الرسمية للانتخابات وإذا بمرشح خاسر كان يبشرنا بأن نتائجه ستكون مدوية ومعه قوي شبابية اعتادت التظاهر والاعتصام بالشارع بمناسبة وغير مناسبة تقوم بتحركات عنيفة لا مبرر لها, ورافعة شعارات غريبة ترفض النتائج الرسمية للجولة الأولي وتدعو إلي إعادة الانتخابات من أولها إلي آخرها. وحين أنظر إلي صور الحريق في المقر الانتخابي للمرشح أحمد شفيق, وإلي التجمعات الغاضبة في ميدان التحرير وميادين أخري في محافظات مختلفة, أشعر بغصة وغضب شديدين, مع حزين عميق لما وصل إليه بعض النشطاء السياسيين من الانفعال غير المدروس والسلوك غير المبرر. خاصة إن قارنا رد الفعل هذا وما حدث مثلا من المرشح الرئاسي الخاسر ساركوزي في فرنسا. فقد وقف الرجل وشكر انصاره واعترف بأن أخطائه في فترة رئاسته هي سبب خسارته. وبعد يومين وقف الرجل أمام القصر الرئاسي منتظرا منافسه الفائز هولاند ليقدم له أسرار العمل الرئاسي ويتمني له التوفيق في خدمة فرنسا والفرنسيين جميعا. مقارنة الصورتين, ما جري في مصر وما جري في فرنسا يقول لنا بوضوح أن مصر ما زال عليها أن تمر بتجارب عديدة وهزات كثيرة حتي يترسخ لدي فئات اجتماعية وشبابية مؤثرة فيها معني الديموقراطية كإجراءات وقواعد صارمة وكمنظومة قيم تفرض قبول إرادة المواطنين واحترام نتيجة الصناديق. تظهر المقارنة أيضا أن كثيرا من المصريين, خاصة الناشطين السياسيين وبعض الكتاب والمثقفين الذين يتشدقون ليل نهار بالحرية والديموقراطية ونهضة مصر والبعد عن التسلط والاستبداد وبناء دولة القانون, يقولون ذلك فقط للدعاية والشهرة وشئون التلفزة والمنظرة لا أكثر ولا أقل. يتحدث هؤلاء عن القيم والمثل كثيرا ويصدعون رؤوسنا بالمشاركة وإرادة المواطنين, ولكنهم في دواخلهم العميقة يكفرون بالديموقراطية ويكرهون اختيارات المواطنين, بل ويتعالون عليها. وفي أول اختبار حقيقي يسقطون تماما وتظهر حقيقتهم الاستبدادية الكامنة, وينكشف رفضهم للقانون وشغفهم بفرض رأيهم بأي طريقة كانت. أعلم جيدا حجم الشعور بالخسارة والإحباط الذي شعر به ما يقرب من12 مليون مصري صوتوا لمرشحين رئاسيين لم يوفقوا ولم ينالوا شرف الدخول في جولة الإعادة, وأعلم جيدا حجم الغضب الكامن في نفوس المرشحين أنفسهم. ولكني لا أفهم طريقة تعامل بعضهم وانصارهم مع الانتخابات الرئاسية باعتبارها لعبة طفولية يحكمها شعار طفولي بائس فيها لا أخفيها. كما لا أفهم مبررات تلك الدعوة بعدم الاعتراف بالانتخابات ونتائجها والمطالبة بإعادتها بين مرشحين محددين ليسوا من الفائزين ولم ينالوا تأييد أغلبية المصريين, وكأن إرداة الشعب المصري لا قيمة لها. فأي بؤس هذا في الفكر وفي السلوك وفي الشخصية وفي التحرك. وأي مراهقة سياسية تلك التي يعتبرها أنصارها تجسيدا للثورة, والثورة منهم براء. صحيح أن الكثير من المصريين يرون نتائج الانتخابات وحصر الإعادة بين مرشحين اثنين لا يرضيان طموحاتهم. ومعروف أن أحد هذين المرشحين وهو د. محمد مرسي يبشر بلا مواربة ببناء دولة دينية في ربوع مصر المحروسة وبهيمنة جماعة محددة علي مفاصل الدولة وسلطاتها الثلاث الرئيسية, والمرشح الآخر الفريق أحمد شفيق هو من كوادر الدولة المصرية ومؤسساتها الرئيسية ويقدم السمة المدنية للدولة كحقيقة نهائية غير قابلة للعبث, ومعها اسلام وسطي معتدل يعكس روح المصريين في رحاب الأزهر الشريف, ومصمما علي أولوية أمن الوطن والمواطنين ومعه تفعيل الاقتصاد والانتاج. من اليسير إذا اتخاذ موقف سياسي ناضج يستند إلي تصور واعي للمستقبل, فإما الانحياز لدولة دينية يحكمها الإخوان المسلمون وأهل الحل والعقد, وينتهي بعدها مبدأ تداول السلطة والانتخاب والاختيار الحر, وتكون بداية لانشاء الخلافة وتحول مصر إلي مجرد ولاية من ولايات الخلافة التي تنشأ لاحقا. أو الانحياز لدولة مدنية يحكمها القانون وتحافظ علي التنوع والثراء المجتمعي والسياسي القائم في مصر, وإن كان المرء من فئة المحبطين اليائسين ورافضا الخيارين معا, فلا غضاضة من الانسحاب من المشهد العام ومقاطعة الانتخابات وترك باقي المصريين يختارون مصير الوطن وفقا لما يشاء ون. أما سياسة هدم المعبد علي من فيه فتلك هي مواقف الخارجين علي القانون أو العجزة واليائسين. وفي الأوطان الكبري التي يسودها العقل والمنطق السليم, فإن الفئة الأولي تستحق العقاب القانوني الصارم, أما الثانية فتستحق الشفقة والرثاء.