كانت حرارة معدتي تفوق بكثير حرارة طبس الفلافل.. شكل الخضار مغر للغاية ورائحة الفلافل التي يكسوها السمسم نفاذة.. بقيت لفترة أشاهد هذا التابلوه ويعتصرني سؤال واحد: كيف سأحصل ولو علي ساندويتش وحافظتي خاوية تماما؟؟ وصل للتو أحد الزبائن طالبا ثلاثة ساندوتشات من الفلافل الطازجة مدعمة بالسلطة الخضراء والبيضاء.. لكم تمنيت وقتها أن أكون في موضعه لألتهم مزيدا منها. أخذ الفتي طلبه وذهب, وذهبت معه روحي وجراحي وخلجات نفسي, تتبعها بشغف وترقب قناتي الهضمية كلها.. بتلقائية وجدت نفسي ألاحقه.. لمحت حزنا عميقا يعلو وجهه وينسحب أثره علي عينيه لتبدوان زائغتين... تبعته, بعدما أيقنت أن ثمة شيء يكدر صفوه.. كان أكبر همي أن أحصل منه علي أي شيء ولو قضمة واحدة أشفي بها غليلي وأدخل بواسطتها البهجة علي أمعائي التي من فرط ما أصابها من جوع, تتلوي كأنها ثعابين فاقدة الوعي. إستقرت خطواته علي مقهي بناصية شارع مضطرب.. جلس صامتا لفترة في حين كانت عيناه علي الحالة نفسها من التيه والشرود.. جذبت كرسيا وجلست بجواره ثم دنوت تماما منه.. لم يكن يشعر بوجودي... هممت ببعض الألفاظ راجيا أن أسمعه, ومن خلال تعابير وجهه وانفعالاته قد أضع يدي علي الجرح. بادرته: هذه الدنيا عجيبة, لا راحة فيها حقا, لا يعلو ظهرها إنسان إلا ولديه هم يؤرقه يفسد عليه حياته, كأننا أتينا إلي الدنيا لنتألم ونشرب كأسات من الهم ونكتوي بالحسرة وظلم العباد وما أن سمع هذه الكلمات حتي انتزع عاصفة من أعماقه أشد حرا من سخونة أبيب... ثم تحركت أذناه تجاهي معلنة الذعون والإنصات... وأنا بدوري لم أسمح لهذه الفرصة الثمينة أن تفوتني فباغته بوصلة أخري من النحيب: تحسين إلي الناس فيسيئون إليك... تمتد يداك إليهم بالخير فيأخذوه وما أن تعطيهم ظهرك إلا ويرجموك بأغلظ الأقوال والأفعال. ازداد وجهه احمرارا وازدادت عيناه بريقا وسافر خلده بعيدا فغاب تماما وعيه وأصبح كيانه بالكامل طوع أمري... هنا أدركت قيمة الفرصة التي أنا بصددها فاجتهدت بغية اقتناصها.. واصلت سكب شجوني وألحاني الحادة علي مسامعه المتحفزة لاستقبال أية كلمة أو حتي مصة شفاة مني... طوقته بأبيات من أفجع مجا قاله أرباب اليأس ورواد النكد... وأخترت بعضا من رباعيات عمنا جاهين( مع اعتذاري العميق لشخصه الظريف)... فقلت وقد ارتفعت نبرة صوتي: دخل الربيع يضحك لقاني حزين نده الربيع علي أسمي لم قلت مين حط الربيع أزهاره جنبي وراح وأيش تعمل الأزهار للميتين بعدها انقادت جوارحه تماما ورويدا تسرب داخل شرنقتي ثم انسلت منه دمعة وحشرجت روحه في صدره ثم إنصرفت نفسه ليس عن الطعام وحسب, بل عن الدنيا بأسرها وإنخرط في بكاء شديد امتزج بنوبة من الندم والحسرة والأسف... هنا ربت علي كتفه بأيد حانية ولم يفوتني بالطبع أن أنفث كلمة أو كلمتين تساعدان علي تصعيد الموقف وتأجيج إنفعالات القنوط بداخله, ولم أهدأ أو أتوقف حتي تيقنت من نجاح مخططي وأدركت أنه علي وشك القيام بعمل ما سوف يفتقد حتما للروية... علي الفور انتقض الفتي من موضعه واندفع للشارع مسلوب الإرداة, هائم الوجدان مفعما بكل معاني السخط والجذع والضيق... سار حائرا وجلا ذاهل الفكر غير مبال بكم السيارات التي تملأ الطرقات حتي أن إحداها كادت تدهمه وتقضي عليه, لولا المارة الذين أحاطوه محاولين إفاقته.. حينئذ, كانت الفرصة مواتية لي تماما لإلتهام الثلاثة ساندويشات.. كانت ماتزال تحتفظ بدفئها ورائحتها الزكية التي نجحت في تخدير أنفي وجسدي وكياني بالكامل.. إنقضضت عليها بلا هوادة رحت أمزقها بأسناني المنهمة دون أن تأخذني بها رحمة, ولم أتوقف أو أتنفس إلا بعد أن استقرا جميعا بأمعائي فأطمأنت نفسي وبدأ شعور بالإرتواء والإمتلاء يلامس شغاف قلبي, إنسحب أثره علي عضلات وجهي التي أنبسطت وأشرقت وتلألأت لينتقل نورها الوضاء فيملأ ما حولي من فضاءات معتمة ويبعث السعادة في كل تفاصيلي البائسة... بعدها جالت عيناي في الشارع المكتظ فارتمي جسدي فوق الأجساد يتماوج معها في تآلف مدهش.. ثم انغمست في قلب الزحام مستمتعا بضخبه الآسر, ومنتشيا بنصري المؤزر, وبدأت أفتش بحماس عن لحظة سعادة جديدة. عزت فوزي الحجار الشنطور سمسطا بني سويف