جاء موت أنطونيوني في نفس يوم وفاة برجمان يجسدا برحيلهما نهاية عصر سينمائي كانت يه السينما امتدادا لحركة الفنون الأخري وانعكاسا لتطور العلوم الإنسانية.. فترة قصيرة لم يحيها العالم سوي ثلاثة عقود علي أكثر تقدير كانت فيها السينما فنا تشكيليا وطرحا فلسفيا ونضالا سياسيا وتحليلا اقتصاديا.0 تياركبير امتد من نهاية الأربعينيات وحتي بداية الثمانينيات برز فيه فيسكونتي وفيلليني وروسلليني ودي سيكا وبازوليني ورينوار وكوكتو وجودار واورسون ويلز وكوبريك و إيزنشتين وتاركوفسكي وفاسبندر ولينش وفيندرز وكازافيتس وكارلوس ساورا وبونول وغيرهم الكثيرين بعضهم مات وبعضهم توقف. كان انطونيوني في خلال هذا الحشد خير من صور النفس البشرية بالأشعة ليظهر نواقصها وعيوبها وقوتها وضعفها في نفس الوقت. كانت البداية مثل كل ايطاليي السينما في تلك الفترة واقعية جديدة مع الأعمال التسجيلية( أناس من وداي بو1943)( كناسون المدن1984) حيث رسم حياة الطبقات الدنيا من سكان المدن فيلم تسجيلي يعد الوجه الآخر لعملة الواقعية الجديدة التي تقبع علي وجهها الأول أفلام مثل سارق الدراجة وروما مدينة مفتوحة ثم( كذبة الحب1949) الذي حوله بعد ذلك لفيلم روائي من اخراج فردريكو فيلليني تحت اسم ( الشيخ الأبيض), يعود انطونيوني للريف الايطالي من جديد ليقدم( الخرافة1949) عن المعتقدات المتخلفة والعادات التي تمارس في ريف إيطاليا. بداية تنذر بظهور نجم جديد من نجوم تلك الواقعية ولكن الواقع ينبئ بعكس هذا مع أول أفلامه الروائية الطويلة1950( وقائع حب) حيث جريمة قتل علي خلفية من علاقة حب وروح السينما السوداء الأمريكية ولكن حتي الآن مازال النقاد يرون خلفية اجتماعية لأفلامه( الزوج القتيل رجل غني والزوجة والعشيق من الطبقة العاملة), أول علامات التحول جاءت مع فيلم( نساء فيما بينهم1955) حيث يرصد علامات عدم التواصل داخل إيطاليا ما بعد الحرب مجتمع عادت له عافيته من بعد الدعم الأمريكي ولكنه انقسم بحدة بين شمال غني وجنوب فقير, شمال غرق أفراده في الذات وبدأت تظهر عليه بوادر التقدم وأمراضه( وحدة ملل اغتراب عدم تواصل), كان فيلمه( الصرخة1957) هو بداية لرصد مبكر للتحول الذي ستشاهده الطبقة العاملة الايطالية بعد ذلك بوضوح من تفكك أسري وتحول عن الصراع الطبقي والمعاناة من المشاكل العاطفية والنفسية للطبقة المتوسطة علي أثر تحول المجتمع, الفيلم ينتهي بانتحار عامل لأسباب عاطفية وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من ثوريي الحزب في تلك الفترة الذين كانوا ولايزالون مفعمين بالحلم البروليتاري. تأتي قنبلة انطونيوني في مهرجان عام1960 مع( المغامرة) أول أفلامه مع مونيكا فيتي التي ستلازمه بعد ذلك في الكثير من أعماله ليعلن بداية سينما جديدة تقترب من الأدب النفسي حيث لحظات صمت طويلة دون مونتاج وإيقاع بطيء متعمد لتعميق الحدث واختفاء غريب لفتاة من البرجوازية يقع صديقها في حب زميلتها أثناء البحث عنها. كانت المغامرة إعلان جديد ان ذلك المخرج الذي برع بعد ذلك في تقديم شخصية الأوروبي في فترة ما بعد الحرب حيث الفردية وعدم التمسك بالأشياء أو الرموز وبداية عذاب النفس البشرية في مجتمع الرفاهية. فيلم المغامرة هو بداية لثلاثية أرست أسلوب أنطونيوني علي مستوي عالم فن السينما, فمع فيلم( الليل1961) و( الخسوف1962), تنفصل الأحبة وتفشل الحياة الزوجية في الثلاثة أفلام وتبدأ مرحلة أفلام عدم التوافق في المجتمع الحديث ليكون الانفصال هو البديل للاستمرارية, عند أنطونيوني تكتمل ملامحها, يبرع أنطونيوني في المزج بين تثبيت الزمن داخل الفراغ حيث لا تدور الكثير من الأحداث في إطار كادري مدروس هندسيا بشكل دقيق يجعل من الصور المتحركة ثابتة علي الشاشة متحركة بالمعني داخل ذهن المتفرج. أول فيلم ملون لأنطونيوني وآخر أعماله مع مونيكا فيتي ونهاية مرحلة ايطاليا مع المخرج قبل الانتقال لهوليوود ( الصحراء الحمراء1964) حيث نري مونيكا فيتي تعاني من آثار حادث تجعلها تجوب أرجاء مصنع زوجها شاردة حتي تلتقي بصديق لزوجها, قدم الفيلم مزيجا من الألوان شديدة الحرارة لعالم الماكينات والصلب ودخان المصانع مما جعل الكثيرين يعتبرون الفيلم هو أول فيلم عن البيئة في تاريخ السينما, ولكن الغريب أن أنطونيوني قدم عالم التلوث هذا بشكل جمالي ملون وكأننا أمام غابة من غابات الطبيعة فلم يكن المقصود غابة المدن الصناعة الباعثة للتلوث في عالمنا المتقدم بقدر التحول الحادث لبشر تلك الغابة الحديثة من الداخل حيث إن كما كنا نشاهده في الخارج ليس سوي أنعكاس لحالة بطلته الداخلية وما تمر به, وقد صنع أنطونيوني مشهدا متماثلا مع لوحة ما تيس الشهيرة( الصحراء الحمراء) حيث لاتوجد أي صحراء بل امرأة تعد المائدة لطعام الغداء مع خلفية حمراء لكل اللوحة ولعله أراد بذلك أن يقدم لنا بهذا مفتاحا لفيلمه, فمثلما لا توجد صحراء بلوحة ماتيس فان صحراء الفيلم ليس ما نراه أمام أعيننا بل ما يدور داخل مونيكا فيتي بطلة الفيلم. الانتقال إلي أمريكا كان بمساعدة المنتج كارلو بونتي وكان الانفجار من فيلم( تكبير الصورة1966) والذي يحقق نجاحا كبيرا جعل مترو جولدن ماير تتعاقد معه علي فيلمين آخريين وفسر نجاحه بمشاهده الجنسية وقصته البوليسية ولكن أنطونيوني طرح من خلال الفيلم قضية أخري, قضية الفن للفن في مواجهة الفن للواقع حيث أن البطل مصور أزياء يرغب في التحول لمصور محترف للواقع. يمل البطل من التقاط اللحظة مجرد اللحظة مع صور عارضات الأزياء, وتأتي له الفرصة مع صورة في حديقة عامة لمشهد بلا معني يلتقطه بكاميراته ليجد نفسه يسجل لحظات جريمة. يظن نفسه عرف كل شيء عبر أول صورة للواقع بالتقاطها يعتقد أنه وصل لليقين ولكن الأحداث تعلن عن خطئه فلا صورة الواقع هي الواقع نفسه ولا يقينه بالحقيقة هي الحقيقة نفسها. أراد أنطونيوني بذلك الإدلاء برأيه في القضية الأزلية هل التقاط صور الواقع هي الواقع نفسه؟ وهل الفن مجرد انعكاس للواقع؟ لذا نري في الفيلم لوحات للفن التكعيبي و التجريدي وبالذات تلك للفنان الفرنسي مارسيل دوشان, وتكون صديقة البطل الرسامة هي المقابل الموضوعي لصور الواقع الذي يقدمها بطل الفيلم الساعي نحو كشف الحقيقة بعدسة كاميراته. تأتي تجربتا أنطونيوني الأمريكتان مخيبتين لآمال الشركة المنتجة لعزوف الجمهور( نقطة زيبريسكي1969) و(المهمة صحفي1975) فتنتهي فترة إرساء قاربه علي شواطئ هوليود ليعود مبحرا إلي إيطاليا دون عمل لمدة خمس سنوات قبل أن يخرج فيلم( التعرف علي امرأة1982), حيث يبحث مخرج سينمائي عن بطلته التي لم يحدد شخصيتها ولا ملامحها بعد ليعكس لنا شخصية أنطونيوني نفسه الذي لم يعد يستطيع التعايش مع العالم الجديد الذي أصبحت عليه إيطاليا, معزولا باحثا عن مجهول, سيجده ولكن هل كان يستحق البحث عنه كل هذا المجهود والتردد؟ يمرض الأستاذ بالشلل وتنتهي علاقته الفعلية مع العمل ولكن فيم فيندرز يعيده من جديد بقبوله العمل كمساعد له كضمان لشركة الإنتاج فيكون فيلمه( ابعد من الغيوم1995) عبارة عن مجموعة قصص حب لا تتم أو تنتهي بالفشل بالرغم من وجود الرغبة, لعل هذا الفيلم انعكاس لحب أنطونيوني للسينما وحال المرض فيما بينهما. آخر أعماله كان فيلما قصيرا في تلاثية( أيروس2002) مع سوديوربرج وونج كاري واي عن الحب والجسد جاء تفوق كاري واي فيها ليغطي علي الجميع. [email protected]