كتب المخرج السويدي إنجمار برجمان ذكرياته عن الحياة والطفولة وبلده السويد في كتاب شهير يحمل عنوان المصباح السحري قال فيه أن السينما بالنسبة له كالهواء والماء والطعام والحب, يمر هذا العام ثلاث سنوات علي وفاة العملاق برجمان هذا المصباح السحري الذي غمر الشاشة الفضية بضوء متلألئ أنار العقل البشري لما يقرب من ستين عاما من عمر هذا الفن الذي تجاوز عمره المائة وعشر سنوات.. فن السينما يحتفل العالم في ذكري وفاته الثالثة بتحويل منزله إلي متحف له, من بعد أن تم شراؤه من الورثة الذين كانوا يريدون بيعه وهدمه. كان ظهور برجمان علي الساحة السينمائية إيذانا بمولد هذا الفن ميلادا جديدا تحول فيه من فن لتسلية الجماهير الواسعة إلي فن ذهني فلسفي يرقي لمستوي الفلسفات التي عنت بظروف حياة الانسان الحديث في عالم مليء بالقسوة. ولد عبقري الشمال في14 يوليو1881 يوم الثورة الفرنسية, ليكتب له القيام بثورة من نوع جديد.. ثورة ضوئية بصرية يؤسس بها لغة جديدة لهذا الفن الجديد نسبيا. عاش طفولة متزمتة مع أب قسيس بروتستانتي في ظل سويد لم يكن يشغلها شيء سوي الخلاص والتطهر الديني ليكون ذلك عاملا رئيسيا في تكوينه الفني والفكري, يعاود ليظهر من خلال أفلامه وكتاباته التي تناولت العالم بلا تزمت ديني بل وبلا مؤسسة دينية. يقدم الممثل عند برجمان ما بداخل الشخصية التي تعكس ما يحدث خارجها وكانت قمة هذه التركيبة مع فيلم( برسونا1966) حيث لم نعد ندرك حقيقة ما نراه هل هو رؤية الشخصية للواقع أم هو الواقع الفعلي وتلعب الطبيعة دور الديكور المكمل والمبرز للأحاسيس الداخلية التي تمر بها الشخصية والتي تتأرجح ما بين السعادة الجارفة والإحباط واليأس, كان برجمان يغلق الحائط الرابع الوهمي الذي تحتل مكانه الكاميرا علي الممثل عبر تضييق مساحة الكادر أو من خلال استخدام العدسة الزووم, وعبر زووم أمامي متحرك علي وجه الممثل, يؤدي الممثل ما بدخله ليس أمام الجمهور ولا أمام أقرانه من الممثلين بل في مواجهة الكاميرا التي تعتصر ما بداخله من خلال نظراته.. تعبيرات وجهه ليكون في لحظة اعتراف كنسي ولكن بدلا من القسيس كاميرا وبدلا من كرسي الاعتراف شاشة فضية. كان غريبا عن مخرج مسرحي مثل برجمان درس وتعلم وعاش فترة شبابه في المسرح الملكي بستوكهولم أن يقدم سينما من نوع جديد تعتمد علي لحظات الصمت أكثر منها علي الحوار والسرد من أجل تقديم أحاسيس شخصياته. تحرك برجمان في اطار العديد من الدوائر عبر أعماله, ولكن مجاله الحيوي الذي تحركت فيه شخصياته كان الخوف من الوحدة, البعد عن الدين, الخوف من الموت, الفشل في الحب والانفصال. تلك هي العناصر المحركة للنفس البشرية في أعمال برجمان أما الحرب وذكريات الطفولة والفن والمسرح والجنس فهي المؤثرات الخارجية التي تؤثر في الشخصيات وتحدد حركتهم داخل المجالات الحيوية السابق ذكرها. في نهاية الأربعينيات قدم برجمان أفلاما وضح فيها تأثير السينما الأمريكية وسينما الفرنسيين مارسيل كارنيه وجان دوفيفيه مع لمسة من الوجودية السويدية للفيلسوف كيركيجارد حيث اختلطت معا موضوعات قاتمة مثل الإحباط والإجهاض والانتحار. وضح ذلك مع أفلام مثل( السجن1948) و(العطش) نافورة اريسوس1949) حيث قدم في الفيلمين القلق الوجودي الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول ساتر, وكان تأثير روبرتو روسيلليني عليه في فيلم العطش كبيرا, فقدم زوجين في رحلة لألمانيا ما بعد الحرب حيث دائرة العلاقة ما بين الرجل والمرأة( وهي التيمة التي سيعود إليها كثيرا فيما بعد) مثلما قدمها روسيلليني في( رحلة إلي إيطاليا), وألمانيا وويلات الحرب كما في( ألمانيا السنة صفر) وهو فيلم من إخراج روسيلليني أيضا. في الخمسينيات بدأ العالم يتعرف عليه من خلال أفلام مثل( لعبة الصيف1950)( مونيكا1952)( انتظار النساء1952)( ابتسامات ليلة صيف1955). احتفي ناقدان من نقاد مجلة( كراسات السينما) الفرنسية احتفاء كبيرا بفيلم لعبة الصيف والذي يحكي عن مراهقين أثناء فترة الاجازة الصيفية علي شط البحر واعتبراه بداية لسينما مختلفة, هذان الناقدان ليسا سوي فرانسوا ترايفوا وجان لوك جودار, لذا فان المؤرخين يعتبرون أن فيلم برجمان هو الملهم لحركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. نال( ابتسامات ليلة صيف955) جائزة خاصة من مهرجان كان( الكوميديا الشعرية), في عام1957 كان( الخاتم السابع) لينل جائزة مهرجان كان الخاصة ثم( الفراولة البرية1958) الذي ينال الدب الفضي في مهرجان برلين. وتزداد شهرة برجمان عالميا مع ثلاثة أفلام من مدارس مختلفة, قصة حب عبر كوميديا خفيفة, وسينما الخيال( الخاتم السابع) حيث شخص يلاعب ملاك الموت علي حياته في قالب من جو الإضاءة الخاصة بالمدرسة الانطباعية الألمانية وفي النهاية دراما نفسية مع( الفراولة البرية) لشخص ينتظر الموت في نهاية حياة, برع برجمان فيها في كسر أسلوب السرد التقليدي وخلط بين الحلم والرؤية والحقيقة. أفلام برجمان لا يمكن حكيها لأن القيمة الحقيقية لا تكمن موضوعاتها لكن في لغتها السينمائية التي تم بها تجسيد المعاني التي يراد توصيلها. وكما أشرنا إلي أن الموضوعات التي سيطرت علي سينما برجمان كان من أهمها:- الوحدة من خلال فيلم( انتظار السيدات1954) لا يأخذ الزوج موقفا من زوجته الخائنة و يعلن أنه( ليست الخيانة هي الأسوأ بل الوحدة), في( الفراولة البرية1957) يشاهد البروفيسور إيزاك بورج في رؤية محاكمة أحد المرضي بعد وفاته أمام محكمة تحكم بإدانته وعند طلبه معرفة الحكم يكون رد المحكمة( الوحدة كالمعتاد). والدين تناوله برجمان في العديد من الأفلام مثل( من خلال المرآة1961),( المعمودية1962),( الصمت1963),( برسونا1966) ولعل مشهد المومياء التي تتنفس في القبو من فيلم فاني والكسندرا1982 من أشهر المشاهد الرمزية في سينما برجمان لتجسيد الأفكار الدينية العتيقة. الموت:- موضوع مهم شغل برجمان وبرز منذ فيلمه( الأزمة1949) حيث صور مشهد انتحار أب أمام ابنته وزوجته, وكذلك تصور الشخصيات للحظة موتهم في أفلام مثل( الفراولة البرية)( برسونا)( وقت الذئب). وكما كثرت رموز الموت في أفلامه( العنكوب سيدة عمياء هيكل عظمي). بيرجمان خير من صور الوجه الإنساني في السينما وهو خير من قدم الصورة الذهنية لشخصيات أفلامه لدرجة عدم اهتمام المتفرج بوجود سرد تقليدي للفيلم وانغماسه في رؤي أبطاله, فنحن مع برجمان لا نري العالم كما هو عليه بل نراه كما يراه أبطاله أي كما يراه هو. لعل الكتابة المبكرة عن ذكري هذا العملاق تدفع البعض لإقامة احتفالية تعرض فيه أفلامه, وتقدم بعض الدراسات عن سينما برجمان, أم أن سينما برجمان ليست سوي تلك النوعية ثقيلة الظل التي لا تجد أحدا يهتم بها.