كانت صدمة كبيرة ليس فقط للإسلاميين ولكن للمصريين جميعا علي اختلاف توجهاتهم السياسية أن يدلي المتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي بتصريحات لإذاعة الجيش الإسرائيلي, يؤكد فيها استعداد الحزب للحوار مع إسرائيل وإنهم لن يعملوا علي إلغاء المعاهدة معها. جاءت الصدمة من زاويتين, الأولي أن التصور العام ليس فقط في مصر بل في العالم العربي كله هو أن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية لديها موقف حازم من إسرائيل باعتبارها قوة احتلال غاشم لأرض إسلامية لايجوز التنازل لها عن هذه الأرض ولايجوز الاعتراف بها أو الحوار معها بأي شكل كان. أما الزاوية الثانية فهي أن حزب النور هو حزب حديث العهد بالعمل السياسي, صحيح حقق مفاجأة كبيرة بحصوله علي مايقرب من25% من إجمالي عدد النواب في المرحلتين الأولي والثانية من انتخابات البرلمان الأول لمصر بعد ثورة25 يناير, مما يدل علي تمتعه بشعبية بين جزء كبير من الشعب المصري, لكن هذه الشعبية جاءت نتيجة الارتباط بالناس من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية والانتشار في الأحياء الشعبية وتوظيف المقولات الدينية في اكتساب تعاطف البسطاء. وهي أمور لا علاقة لها بإدارة علاقات خارجية لبلد كبير بحجم مصر, وهي معقدة ومتشابكة مع مصالح إقليمية ودولية كبري, وتتطلب حسابات دقيقة وأكثر من مجرد إطلاق الشعارات الرنانة أو المواقف العنترية. كانت الصدمة سببا لإثارة الكثير من الجدل حول العلاقة بين السلطة وبين المبادئ, وبين الفوز غير المتوقع وبين الانخراط في أنشطة أو اتخاذ مواقف دون دراسة وتمحيص. ولم يقف الأمر عند حدود محاولة إيجاد تفسير لتصريحات المتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي, بل امتد إلي كل من حزب الأصالة السلفي أيضا وحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية, وكلاهما انتقد مافعله حزب النور, وأكدا رفض كل صنوف التطبيع. أما حزب الحرية والعدالة فقد بات عليه أن يوضح كيف سيدير العلاقة مع إسرائيل وكيف سيكون موقفه من معاهدة السلام وكيف سيتفاعل مع مكونات القضية الفلسطينية والعلاقة مع الولاياتالمتحدة, والتي تعتبر بدورها أن معاهدة السلام تشكل حجر الزاوية لمصالحها العليا في المنطقة, وأن الحفاظ علي بقائها والالتزام بها هو الحد الفاصل بين التعاون والعداء, والحد الفاصل بين الحرب والسلام. بعد هذا اللغط والجدل والصدمة, صدر بيان رسمي السبت الماضي حسم فيه حزب النور السلفي موقفه من إسرائيل علي نحو شمل ثلاث نقاط أساسية, الأولي أن الحزب لن يقدم علي أي خطوة فيها ضرر بمصالح مصر وأبنائها ولن يعمل علي إلغاء المعاهدة باعتبارها التزاما تعاقديا مع الدولة المصرية, والثانية أن الحزب يرفض تماما كل صنوف التطبيع والحوار مع. إسرائيل وثالثا أن الحزب يري هذا الموقف غير متعارض مطلقا مع واجبات مصر تجاه الأمة العربية والإسلامية, والتي تحتم عليها أن تدافع عن حقوق الشعوب العربية والإسلامية, خاصة إخواننا في فلسطين. هذا الموقف ذو العناصر الثلاثة تظهر فيه محاولة إمساك العصا من منتصفها, فالحزب يريد القول أنه لن يكون مندفعا في مغامرات قد تجر الويلات علي مصر, ولن يكون ايضا مفرطا في حقوقها أو حقوق الفلسطينيين وهو موقف يمكن وصفه بالوسطي الذي يراعي مصالح الدولة بمؤسساتها المختلفة وتياراتها المتباينة من ناحية والمشاعر الشعبية الناقدة والرافضة للكيان الإسرائيلي من ناحية أخري وأبرز ما فيه انه يبعث بعدة رسائل للخارج لاسيما الولاياتالمتحدة وإسرائيل, ولعل أهمها أن الحزب السلفي ورغم قناعاته الدينية والفكرية التي تدفعه إلي معاداة إسرائيل, لكن وضعه الجديد كطرف فاعل في الحياة السياسية المصرية بعد الثورة يملي عليه سلوكا واقعيا يراعي الضغوط المختلفة والأثمان العالية التي قد تترتب علي أي فعل غير محسوب. لا نستطيع هنا أن نلغي الأثر غير المباشر للضغوط السياسية والإعلامية العديدة التي مورست في الفترة السابقة سواء من إسرائيل أو الولاياتالمتحدة, وهي ضغوط صبت في التحذير من أن إلغاء المعاهدة يعني بشكل أو بآخر إعلانا للحرب كحد أقصي أو بدء مرحلة عداء وتوتر إقليمي كحد أدني وكذلك فعلت الولاياتالمتحدة وكرر مسئولوها العبارات نفسها تقريبا سواء في القاهرة كما جاء علي لسان السيناتور جون كيري في زيارته الأخيرة لمصر أو في واشنطن نفسها. واقع الحال.. لم تكن رسائل تل أبيب وواشنطن مخصصة للإسلاميين وحدهم, أو للسلفيين وحدهم, ولكنها كانت موجهة للقوي السياسية المصرية علي اختلافهاوإذا كان حزب النور قد بادر بالتأكيد علي رؤيته الواقعية الجديدة, فالأمر نفسه ينطبق, مع اختلاف في الدرجة, بالنسبة لحزب الحرية والعدالة, والذي أكد رئيسه د. محمد مرسي أثناء استقباله جون كيري أن الحزب يعترف بالمعاهدة كجزء من التزامات مصر الدولية, وأن تغيير بعض بنودها يتم عبر القنوات المعروفة. إذن ليس السلفيون وحدهم مستعدين للتغيير أو الدخول في مضمار السياسات الواقعية ومع ذلك يمكن التحسب قليلا فمصر مازالت في بداية عملية تحول, والأعباء المنتظرة كبيرة, وبعض قادة السلفية وكذلك رموز من الحرية والعدالة يلمحون إلي أن الأولوية الآن ليست لتغيير المعاهدة أو الوقوع في خدع دعوات الحوار مع إسرائيل, وإنما لإعادة ترتيب البيت من الداخل, والوصول به إلي أفضل حالات التماسك والترابط, وبعدها سيكون لكل حادث حديث.