لمحافظ البنك المركزي النيوزيلندي الان بولارد وصف طريف لقيمة الخسارة الهائلة التي تكبدتها الأسواق المالية العالمية من جراء اشرس ازمة تعصف بالمشهد المالي والاقتصادي الدولي منذ الكساد الكبير الذي ضرب العالم في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم. فقد قال بولارد ان قيمة هذه الخسائر تبلغ نحو ثلاثين تريليون دولار, وهو مبلغ اذا حولناه إلي دولارات متراصة إلي جانب بعضها البعض, فان هذه السلسلة الدولارية سوف تصل إلي عين الشمس! ناهيك عن ان مبلغا كهذا كفيل باستئصال شأفة الفقر من جسد البشرية ربما إلي غير رجعة. وإذا كان احفادنا سينصتون لنا بشغف ونحن نروي لهم تلك النوعية من التفاصيل المروعة لايام هذه الازمة التي وصفها آلان جرينسبان المحافظ السابق للبنك المركزي الأمريكي بانها لاتحدث إلا مرة واحدة فقط كل مائة عام!!.. إلا ان هؤلاء الاحفاد ستتملكهم علي الأرجح دهشة شديدة قد تصل إلي حد السخرية من المسحة غير المنطقية التي تصل في بعض الاحيان إلي درجة العبثية في الطريقة التي تعامل بها زعماء هذا الجيل في الدول الكبري في الشرق والغرب مع هذا الحريق المالي الاستثنائي الذي تسبب في خسارة الاسهم الأمريكية وحدها خلال احدي مراحل هذه الازمة عشرة تريليونات دولار, هذا ناهيك عما تمخضت عنه من ركود اقتصادي قد يسفر عن انضمام اكثر من خمسين مليون شخص إلي طابور العاطلين, وعن تفاقم كارثة انسانية وصل معها عدد الجوعي في العالم إلي مايقرب من مليار شخص. هذا كله اضافة إلي نذر اضطرابات اجتماعية وسياسية عنيفة مع تنامي اهتراء النسيج الاجتماعي السياسي العالمي.. ربع دول العالم علي الأقل تعاني من اضطرابات أو تشهد نذر اضطرابات من جراء هكذا ازمة. فما هي اوجه القصور المنطقي التي تعتري الطريقة التي يتعامل بها زعماء الدول الكبري مع هذه المعضلة؟ ان اكتشاف هذه الأوجه ليست في حاجة إلي خبير اقتصادي, فهي تبدو واضحة مثل فلق الصبح.. فقط علينا ان نضع مقدمات منطقية ونستخرج منها نتائج منطقية ثم بعد ذلك نحاول استقراء الواقع في ضوء هذه النتائج ونرصد في التحليل الأخير المحصلات النهائية. الحقيقة الأولي تعد الازمة الراهنة بكل المقاييس ازمة عالمية ضربت بشراسة الاقتصاديات كافة الفتي منها والعتي علي الأقل بحكم الطبيعة العولمية للاقتصاد الدولي إلي درجة ان دولا مثل بريطانيا بل بالاحري السواد الاعظم من الدول الأوروبية الكبري سوف تعاني من انكماش اقتصادي قد يكون اشد وطأة من الانكماش الاقتصادي في الولاياتالمتحدة رغم ان الأخيرة تشكل المعقل الذي انطلق منه مارد هذه المعضلة. ولما كانت هذه الازمة ازمة عالمية, فانه يتعين بالمنطق ان يكون حلها عالمي الطابع بل والهوي والهوية.. ولكن حتي الآن لم تتفق دول العالم علي استراتيجية عالمية موحدة حاسمة قاطعة مانعة من أجل اطفاء هذا الحريق المالي والاقتصادي رغم عشرات القمم الاستثنائية والعادية للقوي الكبري في العالم من مجموعة السبع أو الثماني التي تضم القوي الصناعية الكبري في العالم إلي مجموعة العشرين. هذا الأمر تسبب ضمن عوامل أخري في تحول هذه الازمة من ازمة مالية اندلعت شرارتها الكبري في خريف عام ألفين وثمانية إلي ازمة اقتصادية دولية تهدد بوقوع العالم في شرك ركود حاد.. ركود جاء مصحوبا بأزمة ديون سيادية لم يسبق لها مثيل في امتداد رقعتها الجغرافية. فزعماء العالم بدوا وكأنهم مكتفون فقط امام الكاميرات بالتشدق بعبارات منمقة لاتنقصها بلاغة ولا تعوزها حماسة عن ضرورة تنسيق السياسات, والتعاون الفعال ومد خطوط الاتصالات الساخنة واقامة مراكز لإدارة الازمات في مشترك فيما بينها. ولكن بمجرد ان يعود هؤلاء إلي عواصم بلادهم فانهم سرعان ما يشرعون في صياغة خطط للتحفيز الاقتصادي والانقاذ المالي شعارها الأول انا ومن بعدي الطوفان اي انهم يتعمدون علي أرض الواقع تغليب المصالح القطرية الضيقة علي الصالح العالمي. فكل خطط الانقاذ التي تبنتها كل الدول الكبري في بداية الازمة بدون استثناء كان الهدف منها تنشيط الاقتصاديات المحلية علي حساب التجارة الدولية, وعلي حساب ومسيرة الاقتصاد العالمي وليس ادل علي ذلك من ان خطة التحفيز الاقتصادي في الولاياتالمتحدة التي انطلقت منها شرارة الازمة وهي الخطة البالغ حجمها787 مليار دولار جاءت منطوية علي بند يشدد علي حتمية قيام المشروعات التي تستفيد من الخطة بشراء الحديد والصلب الأمريكي وحده لاشريك له, وان كان هذا البند قد جري تخفيفه بعدما اثار حفيظة بقية الدول الكبري وذلك بوضع عبارة هزيلة تقول شريطة إلا يؤثر هذا علي المبادئ المعمول بها في إطار منظمة التجارة العالمية. هذا الأمر يعني ان الولاياتالمتحدة تسهم بشكل اشعال حروب تجارية عالمية بدلا من ان تعمل علي اطقاء نار هذه الازمة. وهكذا اصبح من الطبيعي ان نري كل يوم تناميا لافتا في النزعات الاقتصادية القومية ذات الطابع الشوفيني. وصار هذا الطابع الشوفيني يجسده اتجاه نحو زيادة ما يعرف بالحمائية التجارية بمعني ان كل الدول اصبحت تعكف علي الحفاظ علي مصالحها الضيقة فقط حتي ولو بكسر مصالح الدول الأخري وذلك عبر آليات مثل تخفيض قيمة العملات لزيادة الصادرات, ومنح القروض والتسهيلات للشركات المحلية, وتجاهل نظيرتها الاجنبية العاملة في نفس الدولة, وزيادة الرسوم الجمركية, والضغط علي شركاتها لوقف الاستثمارات في الخارج.. الخ. هذا الأمر صار ينذر بنشوب حروب تجارية, وبتفشي نفس الاجواء الفاشستية المسمومة التي ادت إلي صعود هتلر للسلطة, هتلر حصل علي اصوات ستة ملايين شخص ومن ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية.. ووصلت الشوفينية في الغرب إلي حد تنامي حدة المظاهرات في دول أوروبا الغربية ضد العمالة الوافدة حتي من دول الاتحاد الأوروبي ذاتها, وذلك كله وسط تصاعد عام في مشاعر العداء للأجانب بوصفهم سارقي ارزاق المواطنين اهل البلد. الحقيقة الثانية ان هذه الازمة جديدة كلية, انها جديدة كل الجدة, فهي مختلفة تماما عن الكساد الكبير, فحتي الآن لم يجرؤ احد في العالم علي ادعاء انه يفهم تماما كل ابعادها وتداعياتها التي تتوالي والتي كانت اخرها ازمة الديون السيادية في أوروبا والولاياتالمتحدة. كما لايجرؤ اي محلل كان من كان ان يعلن قدرته علي التكهن بالفترة الزمنية التي قد تستغرقها هذه الازمة, وهل ستكون مثلا سنة واحدة كما تقول اشد التوقعات تفاؤلا ام اكثر من عشر سنوات كما تقول اشد التوقعات تشاؤما. فقد كان منشأ الازمة قطاع شديد الحساسية ألا وهو القطاع المالي, كما ان الادوات المالية التي اشعلت شراراتها الأولي القروض العقارية عالية المخاطر شديدة التعقيد لدرجة انه تبين انه حتي خبراء لجنة الأوراق المالية البورصات الأمريكية عاجزون عن فهم طبيعة هذه الادوات التي وصفها جورج سورس وهو احد اشهر المضاربين في العالم ذات يوم بأنها اسلحة دمار شامل مالية. باختصار الازمة جديدة ومن ثم فمن المنطقي انها تتطلب فكرا جديدا. المشكلة الخطيرة في هذا الصدد تتمثل في رغبة قادة دول العالم في حل هذه المشكلة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين بنفس آليات القرن العشرين وبنفس مؤسسات القرن المنصرم. فهذه الدول تبدو وكأنها نسيت ان ظروف القرن الحادي والعشرين اصبحت اعقد بكثير من ظروف القرن العشرين التي افرزت مؤسسات وهياكل علي غرار صندوق النقد والبنك الدوليين بعد الحرب العالمية الثانية. الحقيقة الثالثة ان هذه الازمة مست بالاساس عصب الاقتصاد العالمي ألا وهو القطاع المالي وبالتالي فان عنصر الثقة يتعين ان يشكل عاملا محوريا في اية خطة أو تدبير يجري تبنيه من جانب الحكومات, ورغم ذلك فان كل الخطط التي جري اقرارها حتي الآن بدت وكأنها مرتجلة ومشوشة, لدرجة ان اسواق المال بدت في حيرة من أمرها بل صارت لاتعرف شيئا عما يجري, فمرة يقال لها سنشتري الاصول المالية الفاسدة التي تسببت في اندلاع شرارة الازمة, ثم يجري التراجع عن هذه الخطوة, ومرة ثانية يقال ان التأميم اي تأميم المؤسسات التي توشك علي الانهيار هو الحل ثم يجري ما يمكن ان نسميه كرا وفرا في هذه الدائرة وخارجها دون اتجاه واضح أو حتي بوصلة تحدد الاتجاه الحالي والمستقبلي. الحقيقة الرابعة ان حريقا ماليا بهذه الضخامة يطرح أكثر من علامة استفهام كبيرة.. إذ كيف عجز العالم برمته عن التنبؤ به؟ وكيف سمح له بأن يتدهور إلي هذه الدرجة؟ فهذا الحريق المالي يعيد دوما إلي الاذهان هجمات الحادي عشر من سبتمبر. بالطبع كان هناك من حذر من هجمات سبتمبر وبالطبع كان هناك في المقابل من حذر من وقوع الازمة المالية لكن يبدو ان سطوة الإهمال ولنقل الفساد كانت اكبر من سطوة كل التحذيرات في الحالتين. الحقيقة الخامسة ان العالم بعد الازمة طالت ام قصرت سيكون مغايرا تماما للعالم قبلها.. سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتي تكنولوجيا.. فالازمة شئنا أو ابينا تشكل ضربة تاريخية كبيرة علي رأس الامبراطورية الأمريكية بعد ضربتي حرب فيتنام وحرب العراق وافغانستان, كما ستكون الازمة الارجح فرصة لاعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية والمالية العالمية بحيث يصبح للاقتصاديات الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل ودول الخليج ادوار اكثر فاعلية وعلي نحو قد يسحب البساط من تحت مجموعة السبع الكبار لصالح مجموعة العشرين التي تتألف من الدول الصناعية الكبري والدول الصاعدة اقتصاديا. الحقيقة السادسة ان الفساد الواسع النطاق الذي كشفت عنه هذه الازمة إلي حد الحديث عن أكبر عملية نصب في التاريخ الحديث صندوق الأمريكي بيرنارد مادوف الذي بلغ حجم سرقاته50 مليار دولار يطرح احتمالين لاثالث لهما علي الارجح فإما ثمة ثغرات في القوانين والضوابط القانونية الراهنة أو ان القوانين موجودة والضوابط موجودة ولكنها لاتطبق. الحقيقة السابعة في بداية الازمة اعلنت الحكومات الغربية انها بدأت تستعير آليات من الفكر الاقتصادي الاشتراكي كي تبرهن علي مدي حرصها علي المصالح القومية لمواطنيها في مواجهة الجشع الرأسمالي كما حدث في تأميم العديد من المؤسسات المالية والصناعية الضخمة مثل شركة جنرال موتورز, وعندئذ قال محللون ان العبرة في هذا الصدد هي في استغلال هذه الآيات, فمن الواضح ان المعاقل الكبري للرأسمالية باتت متهمة بأنها استغلت هذه الآليات الاشتراكية لصالح مؤسسات متهمة بالفساد, وانها قامت بتمويل هذه الآليات من اموال دافعي الضرائب العاديين علي نحو جعل ما يجري يبدو وكأنه باختصار عملية خصخصة للارباح لصالح نخبة رأسمالية فاسدة, وتأميم للخسائر بمعني توزيع كلفتها علي المواطنين العاديين الذين لاناقة لهم فيها ولاجمل في اصل هكذا معضلة. وبعد موجات التأميم التي تنبتها الدول الكبري في بداية الازمة في إطار خطط انقاذ تكلفت ما قد يصل إلي خمسة تريليونات دولار جري تمويلها من اموال دافعي الضرائب, فان هذه الدول تشرع الآن في تطبيق مجموعة من اشد خطط التقشف الاقتصادي وسياسات ربط الحزام علي بطون شعوبها وذلك من أجل تخفيف حدة الديون السيادية التي تراكمت علي كاهل هذه الدول من جراء خطط الانقاذ وهو ما يعني ان المواطن العادي سيضطر للمرة الثانية إلي ان يدفع من قوت يومه ثمن اخطاء سياسية واقتصادية فاحشة لاناقة له فيها ولاجمل.