تنبهت راشيل كارسون إلي مقتل العصفور الصغير في منزل صديقتها بعد أن قامت برش منظفات الهواء الاصطناعية لتعطير جو المنزل, وكان ذلك بدايات الادراك لخطورة بعض المواد والكيماويات علي البيئة وحياة الناس. وكتبت كارسون كتابها الشهير ربيع صامت في عام1965 م الذي يعد علامة فارقة في تكوين الرأي العام المناهض للاستخدام غير الرشيد للكيماويات والمبيدات في البيئة, وثارت مناقشات ومساجلات ومشاحنات, فاستخدام الكيماويات خطر علي البيئة, ولكن هل هو خطر لابد منه؟ ألا تساعد الأسمدة الكيماوية في تنمية المحاصيل الزراعية ودرء الجوع عن البلايين من البشر الذين يعانون من نقص الغذاء في مختلف أرجاء الكرة الأرضية؟ وهل نستطيع الاستغناء عن الكيماويات الناتجة من تقطير البترول التي تقوم عليها صناعات البلاستيك وغيرها من الصناعات مثل الألياف الاصطناعية ومواد التغليف والوقاية, وأجزاء السيارات خفيفة الوزن, والمطاط الصناعي, والإطارات, والأجهزة الطبية, والدهانات والطلاء, والمواد اللاصقة والمواد المستعملة في التبريد, وغيرها؟ وإذا كانت منتجات البتروكيماويات ضرورية لمتطلبات الحياة اليومية ورغد العيش, فما السبيل إلي درء المخاطر الناجمة عن صناعتها وتعظيم الفائدة منها في عالم أصبح أكثر وعيا بالمحاذير البيئية بينما يسعي للتصنيع والتنمية؟ حاصرتني هذه الاسئلة وأنا أتابع أزمة مصنع أجريوم بدمياط, وتطورها المتسارع في الأيام الأخيرة, حيث تحولت الوقفات السلمية إلي مواجهات ومصادمات عنيفة, حتي كون عدد من الأهالي ائتلافا أسموه مواطنون ضد مصانع الموت فيما طالبوا برحيل مصنع أجريوم من دمياط. وتابعت الجدل المحتدم بين مهاجم ومدافع, فهناك من يقول إن إنشاء هذا المصنع يهدد الحياة الطبيعية في تلك البقعة من الأرض, حيث ان صرف مخلفات هذا المصنع سيؤدي إلي تلوث المياه مما يهدد الثروة السمكية التي تتميز بها المنطقة, فضلا عن الانبعاثات الغازية الضارة, حيث تؤدي الي موت الزرع وزيادة تشوهات الأجنة مما ينذز بكارثة صحية وبيئية. وعلي الجانب الآخر هناك من يؤكد أن المصنع مطابق للمواصفات البيئية, وقام بتوفيق أوضاعه, وهو آمن بيئيا, وإنتاجه الصناعي يعود بالفائدة علي أهل دمياط والوطن, وأن وقف تشغيل المصنع واستمرار الاحتجاجات تصرف غير مبرر, وينذر بكارثة صناعية واقتصادية. الحقيقة الملتبسة جعلت السيد رئيس الوزراء يشكل لجنة عليا لبحث ما إذا كانت هناك أي أضرار من المصنع علي البيئة المحيطة,فهل هو مصنع للموت أم للرخاء؟ في تصوري أن مايجري الآن هو نتيجة طبيعية للقرارات الفوقية, وحصاد لممارسات تجاهلت رأي المجتمع, فمآل أي مشروع إلي الفشل مهما كانت فائدته أو جودته الفنية لو لم يلق قبولا مجتمعيا وحين اصيب النظام بمرض الاستعلاء والاستخفاف برأي الناس, لم يلتفت الي ضرورة التسويق المجتمعي لهذا المشروع( أو أي مشروع غيره) حتي يتقبله المجتمع. والتسويق المجتمعي هو أحد مفاتيح النجاح لأي مشروع, فهو مزيج من العلم والفن, له خبراؤه ومتخصصوه, يعتمد الجانب العلمي فيه علي الدراسات النفسية المتعمقة لمشاعر الناس والتعرف علي طريقة تفكيرهم, واستخدام ذلك في صناعة حزمة تسويقية توضح للناس كيف يمكن للمشروع المرتقب أن يحقق رغباتهم ويقابل طموحاتهم, بينما يعتمد جانب الفن فيه علي طريقة صياغة الرسالة التسويقية الإعلامية بطريقة محببة, وتوصيلها للناس بكلام سهل مفهوم يبين لهم أنهم جزء لايتجزأ من المشروع, ويحادثهم بلغة بسيطة سلسة تمس مشاعرهم, وتصل مباشرة إلي قلوبهم كما تستقر في عقولهم. ولكن كيف تكون الرسالة الإعلامية للتوعية بمشروع يحمل في طياته الخطر, خاصة أن المجتمع يفتقد الثقة في المسئولين, ولا يصدق كلامهم؟ وله كل الحق في ذلك, وكيف يتسني إقناع الناس بقضية علمية تخصصية, مفادها أن الاستخدام الآمن للكيماويات ممكن؟ نعم ممكن في ظل معايير عالمية وضعت, وتشريعات دولية نوقشت, وقوانين محلية سنت لتقوم كل دولة علي تنفيذها من خلال أجهزتها المختلفة وهنا تصبح الحاجة ملحة للإبداع في برامج التعليم والتوعية والتسويق المجتمعي. دعني أحدثك عن تجربة فريدة في التسويق المجتمعي شهدتها بشركة لصناعة البتروكيماويات بدولة البحرين, تقوم علي استغلال الغاز الطبيعي الموجود في الدولة وتحويله إلي قيمة مضافة لإنتاج بتروكيماويات عالية القيمة. تحسبت الشركة للقبول المجتمعي, فلم تكتف بالترويج لفوائد المشروع وعوائده المالية, أو بنشر التقارير العلمية التي تؤكد توافق الشركة البيئي, ولكنها قامت بمبادرة رائدة لطمأنة الناس بسلامة عملياتها والتزامها البيئي ومحافظتها علي صحة الناس وحتي تبعث الشركة برسالة واضحة للمجتمع البحريني, لا لبس فيها ولا اختلاف, أقامت مشروعات مبتكرة تحمل في طياتها رسالة بيئية لم تكتف بمعالجة مياه الصرف الصناعي بل بادرت بإنشاء مزرعة سمكية في المياه المقابلة للشركة, وما لبثت أن تكاثرت الأسماك وكبرت, وتمت متابعتها بالتحاليل والفحوصات الطبية, والتأكد من سلامتها التامة, وأصبحت مصدرا غذائيا إضافيا للمنطقة لم تكتف الشركة بالإعلان عن تركيب مرشحات وفلاتر للهواء, بل أقامت محمية للطيور, تعيش فيها طيور من المنطقة, بل وتأتي اليها طيور مهاجرة, فهي دلالة علي نقاء الجو من أي تلوث, فكما هو معروف فإن الطيور لها حساسية شديدة لتلوث الهواء حتي ولو كان بمعدلات طفيفة, ولقد كانت هناك أنواع من الطيور تستخدم لاكتشاف تلوث الهواء للعاملين في المناجم لم تكتف الشركة بالإعلان عن حرصها علي احتواء المخلفات, بل قامت بزراعة حديقة خضراء, بها بعض النباتات الطبية النادرة والخضراوات المحلية في دلالة واضحة علي صحة التربة وعدم تلوثها. ولعل تلك التجربة تعد أول مبادرة عربية بيئية يتم فيها تنفيذ مشاريع حيوية في موقع الإنتاج لتبعث برسالة جميلة, وعملية, ومرئية: نحن نحافظ علي البيئة من التلوث في الماء, والهواء, والتربة. ما رأي حكومتنا الموقرة؟ وهل تأتي لنا بسمك وعصافير في دمياط؟ جامعة الإسكندرية