وأنا في الطريق بملابس الإحرام إلي مطار القاهرة, كنت أعيش حالة من الوجد الروحي, والشوق اللانهائي للأماكن المقدسة وإتمام رحلة الحج التي أكرمني الله بها, وطوال الرحلة بين القاهرةوجدة كنت أعيش بكل كياني أحلم بلمس أستار الكعبة, والصلاة في الروضة الشريفة. لكن فور أن وصلنا إلي مطار جدة, بدأت تتغير أحوالي فقد كانت صدمتي الأولي لأنني فقدت هويتي المصرية, حيث تم سحب جوازات سفرنا في مدينة الحجاج, وتحولنا إلي رقم علي أجندة المطوف, وأصبحت هويتنا عبارة عن إسورة مطاطية, لاتحمل حتي اسمائنا وإنما إسم وعنوان وهواتف المطوف. أي أننا أصبحنا أسري المطوف السعودي, وانتسبنا إليه, رغم أن ديننا الإسلامي الحنيف, نهي منذ أكثر من الف وأربعمائة عام عن نسب الأبناء سوي إلي أبائهم,أصبحنا لا نتحرك أو نأكل أو نشرب إلا حسب تعليمات المطوف. وقد علمت أن تلك الخطوة لا تتم مع كل الجنسيات,وإنما هناك جنسيات معينة ومنها المصرية يتم سحب جوازاتها خشية من تخلف البعض عن رحلة الحج أو العمرة والبقاء في السعودية بدون سند قانوني, ومع احترامي للقانون السعودي, فإنني لا ألوم سوي المصريين وحكومتهم التي وافقت علي تلك المعاملة التي تنتقص من كرامة المصري, وتعامله معاملة المتهم. المهم أنني بعد ذلك أصبحت أنتمي إلي المطوف, ورهن تعليماته, والتي بناء عليها أنتظرنا نحو ثلاث ساعات, حتي وصلت الحافلة التي أقلتنا إلي مكة, وقد طالت الرحلة وقاربت الساعات الأربع, أي أننا قضينا معظم ساعات يومنا الأول في الانتظار والتنقلات, وبالطبع وصلنا إلي مكةالمكرمة في حالة شديدة من التعب والإرهاق, الذي زال عن أجسادنا وقلوبنا فور أن تشرفت عيوننا برؤية المسجد الحرام يتلألأ في حلة من الأضواء, وتحيطه القلوب الطاهرة, وتتصاعد من حولة التلبيات والتكبيرات تنطق بها قلوب المحبين الخاشعين المتوسلين إلي رب البيت ورب العباد وخالق كل شيء, الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذين لبوا دعوته, وجاءوا طائرين علي أجنحة الشوق للطواف حول الكعبة المشرفة, يغسلونها بدموع التوبة والندم,والاستغفار. رغم إرهاق الرحلة طرت متشوقا لملاقاة الحبيب ومعي صاحب القلب الطيب ورفيق رحلة الدراسة والعمل حسن عاشور, وصاحب القلب الأبيض إبراهيم حسنين,والزميلان أحمد عصمت وعادل عبد الله, واندمجنا قطرات تسبيح وتلبية في خضم بحر زاخر بموجات الإيمان التي تحيط في حنو وتركع في تبتل وتسجد تعبدا لرب البيت الحرام,تطوف حول الكعبة في رحلة إيمان, تضم كل صنوف البشر, جاءوا من كل فج عميق, يلبون نداء الله سبحانه وتعالي وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق. كنا نطوف وقد تخففت أجسادنا, وتخلصت القلوب من أدران الدنيا,كنت كالريح, أطير ولا أمشي علي قدمي, لساني غمرته كلمات الشكر والثناء والتهليل والتكبير سالت الدموع خشوعا وتذللا لصاحب الجود والكرم, أتمني الصفح والعفو والسماح,كانت كل دورة حول الكعبة تقربني من عرش الرحمن, وتغمرني بالنور, وتخلصني من شوائب الدنيا وخطايا الشر التي تراكمت ورانت علي القلب بمضي السنين, طوافي عشت لحظات بعمري كله مع حبيبي وشفيعي وشفيع المؤمنين, الهادي البشير, محمد صلي الله عليه وسلم, وسألته الشفاعة وأن يسقيني من حوض شافعته شربة ماء لا ظمأ بعدها,تمنيت أن أكون في معية صحابته الكرام, الذين أناروا العالم نورا وعلما, سألت الله أن يتغمدني برحمته, ويشملني بكرمه وأكون بفضله في مقعد صدق بين الصديقين المؤمنين وبين الشهداء, أنعم معهم بنعيمهم المقيم, في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. ولآن النعيم لا يحظي به إلا المتقون الصابرون القانتون تمنيت أن أكون منهم وبينهم,ولكن لحظات السعادة والهناء لا تدوم, ولابد أن ينتهي الطواف بتمام الشوط السابع مع وعد وعهد بمواصلة السير علي طريق التقوي والإيمان, ورجاء في العودة إلي دوران الخشوع والتبتل في رحاب الرحمن بين ملايين الضيوف علي مائدته السنوية. وأصلي ركعتي الطواف شكرا وعرفانا وامتنانا للواحد الديان مبدع الأكوان بالقرب من مقام سيدنا إبراهيم,اتباعا لسنة النبي صلي الله علية وسلم, فبعد أن فرغ من طوافه, جاء إلي خلف المقام, فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي فصلي ركعتين والمقام بينه وبين البيت** الأسبوع القادم نواصل خواطر رحلة الحج التي أكرمني بها الله سبحانه وتعالي.