قبل سنوات ليست بعيدة, كان المواطن المصري البسيط يجهز تحويشة كبيرة تصل إلي عدة آلاف من الجنيهات ليشتري الدش ومكوناته, في إطار سعي مستمر لمواكبة أحدث أساليب استقبال البث التليفزيوني. وبعد أن ظلت الأمور لسنوات عديدة مقتصرة علي القناتين الأولي والثانية بالأبيض والأسود, انفتح باب البث الفضائي علي مصراعيه, وباتت القنوات التليفزيونية بالآلاف, وبأرخص الأسعار.. بل أصبح التليفزيون في جيب المشاهد.. بل هو تليفزيون حسب الطلب. لكن الجديد في عالم التكنولوجيا لا يلبث بعد فترة وحيزة أن يصبح قديما وجزءا من التاريخ. فكما أصبح التليفزيون الأبيض والأسود تاريخا, ربما يصبح الدش الضخم الذي يميز أسطح البيوت المصرية وكذلك, بعد أن تصبح وسائل استقبال البث عبارة عن أدوات متناهية الصغر, بل إن مصير التليفزيون نفسه أصبح محل استفهام كبير. والشئ المؤكد أن ما يجري في العالم من تطورات مذهلة, يمثل موجة عالية للغاية لا يستطيع أحد الوقوف أمامها. فالظروف تغيرت وباتت السماوات أكثر انفتاحا, ولم يعد بمقدور أحد أن يوقف هذا التدفق الهائل من إشارات البث الفضائي. لكن الذي يحدث في مصر مثلا أن اللحاق بقطار العصر يكون متأخرا بعض الشئ, صحيح أنه الان أسرع من ذي قبل والشاهد علي ذلك تنامي عدد مستخدمي الإنترنت من المصريين, إلا أن الوصول إلي مرحلة الوسائط المتعددة ربما يستغرق بعض الوقت. والشاهد علي ذلك أن تقنيات العصر الحديثة وإن وصلت إلي مصر صاحبة القمر الصناعي نايل سات, مع تعدد القنوات الفضائية الخاصة وانتشارها بشكل مذهل, فإن هناك خصوصية لافتة تكشف عن جمود في طريقة التفاعل مع هذه التطورات. فمثلا التليفزيون الحكومي عجز عن التعامل مع أحداث ثورة25 يناير, ولم يكن علي مستوي الحدث, وظل يتعامل مع التطورات بطريقة شاهد ما شافش حاجة, رغم أن التطورات كانت تذاع علي الهواء مباشرة في العديد من الفضائيات العربية والأجنبية. من هنا ترقي المقارنة إلي مستوي الفضيحة. أما الفضائيات الخاصة التي يملكها رجال أعمال في مصر فإنها أيضا ذات سمة واحدة تقريبا وهي أنها كانت ولاتزال جزءا من هذه المنظومة الحكومية المتخلفة, خاصة فيما يتعلق بالمضمون الإعلامي. أما الشكل ففيه قدر من الإبهار والتغيير, مع معارضة شكلية أيضا للنظام الحاكم والعمل بسياسة المشي بجانب الحائط, وربما داخل الحائط. لهذا لم يكن مستغربا أن تقوم قنوات خاصة علي مجرد برنامج توك شو. وهنا يلاحظ المتابع ذلك التشابه والتقارب اللافت في الشكل والمضمون والضيوف بين تلك المحطات أو برامج التوك شو, التي ملأت سماء مصر. وفي هذا السياق, لا يدرك القائمون علي أمر تلك المحطات أنهم استيقظوا متأخرين بعض الوقت. صحيح أن مصر سبقت العديد من جيرانها, لكن, التطور المذهل في تلك التقنية عبر العالم سيحول التليفزيون الي شئ آخر, أقرب إلي الهاتف المحمول الذي يرسل ويستقبل إشارات البث وينقل الأخبار والتقارير والصور ويمثل وسيلة تواصل اجتماعي بلا حدود عبر كل بقعة علي وجه الأرض. إنه إذن الإعلام اللحظي, الذي ربما استفادت ثورات الربيع العربي في تجاوز القيود التي فرضت علي التغطية الإعلامية من جانب بعض الحكومات, فكانت قناة الجزيرة علي سبيل المثال في أوقات المنع تنقل الأحداث عبر تقنيات خاصة وحديثة جدا علي الهواء مباشرة, مستفيدة من المشاهد نفسه الذي أصبح جزءا من منظومة العمل, فهو يرسل الصور والتقارير والأخبار, كأنه مراسل في الميدان. وقد بات من الضروري أن يدرك هؤلاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي أن بإمكان المواطن انتقاء اي مادة ومشاهدتها وقتما يريد, بل والتفاعل معها أيضا, خارج إطار القوانين التي تضعها الحكومات والتي تكشف عن أن تلك الأنظمة لا تزال تعيش خارج إطار الزمن. وإذا كان الجمود سمة من سمات الحكومات العربية فإنه موجود أيضا بين قطاعات واسعة من المشاهدين والمتعاملين مع التليفزيون ممن يستقبلون بانبهار المسلسلات التركية المدبلجة, كما كانت أجيال سابقة تتابع بحالة من الذهول أيضا حلقات المسلسل الأمريكي الشهير فالكون كريست أو غيره. وفي هذا الصدد أيضا يفتقر الناس في مصر والعالم العربي كما في دول أخري لخاصية السيطرة علي ساعات المشاهدة والقدرة علي الانتقاء, الأمر الذي وصلت فيه المشاهدة عند البعض إلي حد الإدمان, وهو أمر بات محتمل الحدوث في المجتمعات الأكثر فقرا في مجال التكنولوجيا. الأخطر في هذا السياق, هو ما يتعلق بالطفل وطريقة تربيته وتكوين وعيه. فالعالم العربي يفتقر إلي حد كبير إلي وجود برامج متخصصة للأطفال تراعي احتياجاتهم مع التنويع والتشويق, فضلا عن متطلبات التوعية والتنشئة السليمة. ومع انتشار نوادي الفيديو والأقراص المدمجة في المدارس والنوادي والجمعيات باتت الأمور أكثر خطورة علي الأطفال في ظل غياب رقابة ومتابعة حقيقية من الوالدين, ومع الافتقار لبنية تشريعية تلبي احتياجات المجتمع وتجعل الإعلام حلقة في سلسلة التنمية. ولعل هذا ما يفسر انتشار العنف بين الأطفال الذين يسعون لمحاكاة برامج وأفلام الكارتون. ومع ظهور يوتيوب, أصبح التليفزيون في وضع بالغ الحرج, فأصبح كل من يستخدم الإنترنت, ناشرا لمواد مرئية من أي نوع بنفسه. ليس كل فرد فحسب, بل لجأت إليه شركات انتاج الأفلام والمشاهير والشركات والجامعات والمدارس وفتحوا لهم قنواتهم الخاصة. السؤال الآن.. ما الذي يمكن أن يدفع المواطن في مصر والعالم العربي للاستمرار في مشاهدة التليفزيون بنفس الطريقة القديمة, إذا كان باستطاعته أن يفعل ذلك بطريقة سهلة وخاصة جدا عبر يوتيوب مثلا, بل ويتفاعل أيضا بضغطه زر بسيطة؟؟. لقد شكل انتشار الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحموله الفائقة السرعة تهديدا حقيقيا للتليفزيون في مصر والعالم العربي. وإذا كان التحول قد بدأ بالفعل في بلدان أكثر تقدما من الناحية التكنولوجية, فإن الدور قادم علي هذه المنطقة التي هبت وتهب عليها الآن رياح التغيير من كل مكان.