من فوق عرفات, تهتز المشاعر والقلوب وتقف الكلمات عاجزة بعد أن قطعت الجموع الحاشدة الخاشعة المسافات الطويلة من مشارف الأرض ومغاربها, وبذلت الجهد والعناء للفوز بوقفة هي الركن الأساسي الذي لا تكتمل بدونه فريضة الحج. وعلي امتداد ساعات اليوم يرتفع الدعاء الخالص بأن يتقبل الخالق العظيم التوبة, وأن تغتسل الذنوب ليعود الحاج كيوم ولدته أمه إذا خلصت النيات واشتد الرجاء. سبحانك يا الله والمعاني تتجلي في هذا المشهد المهيب والملايين تصطف بلا تمييز في اللون والجنس والملبس, كلهم سواسية وقد تركوا خلفهم المال والجاه والسلطان والأهل والولد, لتكون العظة والعبرة تحسبا ليوم الحشر والحساب, حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم. سبحانك يا الله والعيون شاخصة مستبشرة والدموع تنهمر طاعة وأملا, ونور الإيمان يضيء الوجوه الصادقة المتلهفة لعفوك. وفي ساعات الصفاء الروحاني يتذكر أولي الألباب الكثير من الأدلة والبراهين علي عظمة الخالق سبحانه وتعالي وكيف تكون عدالته المطلقة مهما تبعد الأيام والسنين, أدلة وبراهين تمثل أمامنا واضحة مجردة لتعيد الرشد واليقين وتبعد الشيطان الرجيم. كيف يمكن أن ننسي العروش التي سقطت وقد كان أصحابها علي اعتقاد بأنهم في بروج مشيدة وحصون يصعب اختراقها, فإذا بها تتهاوي علي التوالي ليعود الإنسان إلي أصله ضعيفا مذعورا؟ من منا لم يتعظ وقد سمعنا ورأينا الأدلة والبراهين علي أن الله يمهل ولا يهمل, وأن الإنسان يحاسب في الدنيا قبل أن يأتيه الكتاب بكل ما فعل يوم الحساب الأكبر. أما الذين لم يتعظوا ولم يدركوا أنهم سوف يحاسبون فهم الذين يطمس الله علي قلوبهم وأبصارهم ليزيدهم مما سعوا إليه من متاع غرور. الظالمون هم وحدهم الذين يستحقون الشفقة لما ينتظرهم من عذاب أليم, أما دعوة المظلوم فهي المستجابة من رب العرش العظيم, وقد زلزلت الأرض تحت أقدام الطغاة والظالمين بسبب تلك الدعوات التي تفتح لها أبواب السماء. الذين لم يتعظوا سوف يأتيهم البرهان من حيث لا يعلمون.