فوق البقعة الطاهرة وفي مشهد خالد لامثيل له, وقف الملايين من حجاج بيت الله الحرام يوم عرفة, يرددون من اعماق قلوبهم.. لبيك اللهم لبيك, لبيك لاشريك لك لبيك, ان الحمد والنعمة لك والملك, لاشريك لك.. تتغير الوجوه والملامح والصفات, وتظل الكلمات واحدة تتطلع الي المغفرة والرحمة في يوم أشبه مايكون باليوم الموعود الذي لاظل فيه الا ظله سبحانه وتعالي, ولا ملك فيه الا ملكه, حين يسود العدل الإلهي فتطمئن القلوب المؤمنة الصابرة الموحدة, ويدرك الظالمون اي منقلب ينقلبون.. في هذا اليوم العظيم المشهود تتجلي المعاني السامية لهذا الدين الحنيف الذي يضع المعايير الواضحة للانسان الذي ينعم الله عليه بالايمان, وهي نعمة كبري يختص بها من يشاء, فإذا بهم من المستبشرين القانعين بما كتب الله لهم.. في هذا الجمع العظيم لاتستطيع ان تفرق بين الغني والفقير والابيض من الاسود, وصاحب المنصب والجاه من المعدم المحروم, لامكان في ملابس الاحرام للذهب والفضة والعملات التي يتداولها الناس وتكون سببا للصراع والخلاف وربما الحروب, بل يعود الجميع الي الفطرة والرداء الذي لايختلف كثيرا عن الذي يخرج به الانسان من الدنيا, فما اكثر الدلائل التي يشير لها هذا الزي البسيط الخالي من الخيط والتطريز حتي لايكون مدعاه للمباهاة أو للتفرقة من اي نوع, ويأتي التكليف محددا قاطعا بالوقوف بعرفة ركن الحج الاكبر موحدا في توقيته, الجميع سواسية امام الخالق, الرجل والمرأة, الصغير والكبير, الكل في مناجاة ودعاء خالص صادق بأن يعودوا كما وعدهم ربهم كيوم ولدتهم امهاتهم.. وتزداد اقترابا من المعاني والدلالات لهذا الحشد الهائل فاذا بكل منهم يناجي ربه بما يلهمه من الدعاء, ولا وساطة او وسطاء, ولاميزة لجماعة عن اخري, هنا في هذا الموقف العظيم, يقف الانسان بين يدي الخالق في خشوع وطهارة في الجسد واللسان والسلوك, ليكون ذلك العنوان الدائم للمسلمين.. ونمضي في تأمل امة الاسلام كما ارادها رب العزة والجلال, وبعد نظافة البدن واللسان والسلوك تفتح ابواب السماء للتوبة, لامجال الا لتكفير الذنوب مهما كثرت والخطايا, ولايرد دعاء صادر من قلب سليم عازم علي بلوغ مغفرة واسعة يمنحها الله لمن ترك الاهل والولد ساعيا الي المشقة حتي يقف وسط الجموع متطلعا الي ذات المكان الذي وقف فيه الرسول الاعظم محمد صلي الله عليه وسلم ليخطب في الناس خطبة الوداع داعيا فيهم الي الاسلام الصحيح الذي يحفظ للانسان كرامته وشرفه وعرضه لتكون حراما علي اخيه الانسان.. وتبلغ المعاني ذروتها عندما يقترب موعد الغروب والنفرة الي مزدلفة ليسود الهدوء والخشوع والنهي عن الهتاف ورفع الشعارات التي لم يعرفها الاسلام الا في ازماننا الحديثة. في صدر الدعوة الحقة, كان الترغيب في الاسلام بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة, ولم نسمع عن تهديد ووعيد وتخويف وصياح, والأكثر من ذلك ماجاء في الآيات البينات.. لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. صدق الله العظيم.. ماذا نريد اكثر من هذا البرهان والدليل الذي يغلق ابواب المدعين الذين يحلو لهم تنغيص حياة المسلمين بكل مايرهبهم ويزلزل اقدامهم بعيدا عما أمرنا به الله ورسوله. وتتوالي المشاهد ذات المعاني الخالدة التي لاتفارق الاعين والقلوب في اداء المشاعر, وتقترب من هذا الشيخ العجوز القادم من اقصي الدنيا يسعي وقد باع مايملك من متاع رخيص لايساوي شيئا وهو يقف بعرفات ويطوف الكعبة المشرفة ويزور سيد المرسلين في المدينةالمنورة. لاتساوي الدنيا عند هذا العجوز الذي عرف الحقيقة بان سنوات العمر هي اقل من لمح البصر واقل في القيمة من جناح بعوضة.. وذلك الشاب اليافع الذي لم تخدعه قوته ولم تلهه عن ذكر الله واستكمال اركان الدين طالما امتلك المقدرة علي اداء فريضة الحج.. وتلك الفتاة الحافظة لدينها واخلاقها رغم مغريات الدنيا بزينتها ومباهجها, الا انها اختارت ان تكون مؤمنة موحدة بلا غلوا وتطرف.. كل النماذج البشرية التي اتت من بلاد المسلمين وخارجها, من الصين وروسيا وامريكا واوربا واليابان والفلبين وغيرها, تتوحد الالسنة رغم اختلاف اللغات, الا ان كلمات التوحيد تظل باقية, لا اله الا الله, محمدا رسول الله, والله اكبر ولله الحمد, وتشعر بقشعريرة في الجسد والروح بدخولك الي الحرم الشريف والالاف المؤلفة في طواف يواصل الليل بالنهار وتخشي الا تجد مكانا من الزحام, وسبحان الله تدخل وتقترب من الكعبة المشرفة وقد يسعدك الحظ وتلمس الحجر الاسود, وتنظر الي ماحولك, وجوه بشرية واخري ملائكية, فالملائكة تطوف.. وتشعر بهم.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لاشريك لك لبيك.. ان الحمد والنعمة لك والملك.. لاشريك لك. ومع اكتمال المناسك, يدخل العيد وتدخل الفرحة القلوب, سعيدة بما حباها الله من مقدرة وقدرة علي بلوغ نهاية الفريضة, ومتطلعة الي الجزاء والثواب والاجر والقبول.. وكل عام وانتم بخير.