اربعون يوما مضت علي رحيل زميل الدراسة, الشاب الوسيم, المهذب, الدمث. رحل في هدوء لا يتناسب مع جنازته الهادرة حيث علا الهتاف ياخالد قول لابوك, ثمانين مليون بيحبوك. تأملت الرسالة التي بعث بها المشيعون, حملوها للابن خالد عبدالناصر ليوصلها الي الاب جمال عبدالناصر حسين سلطان علي عبدالنبي الذي رحل منذ عقود اربعة. قد يتفق أو يخلتف السياسيون علي موقع الاب من التاريخ, ولكنهم لايختلفون علي موقعه في وجدان الناس الذين يحملون صوره, وينادون باسمه, ويهتفون له بمشاعر الحب حتي اليوم. ولكن ما سر هذا الحب العجيب الذي يربط الناس برجل لقي هزيمة نكراء, تحطم جيشه, واحتلت ارضه, وتنحي عن الحكم مقرا بخطئه؟ وتوقع الرجل حسب رواية المقربين منه ان يحاكم ويشنق في ميدان التحرير, ولكن ما حدث كان مذهلا, فقد خرج الناس يجددون بيعته, ويأكدون ثقتهم به, ويطالبونه بالاستمرار في الحكم. اشهد صورة مقابلة, لحاكم جلس علي عرش مصر ثلاثين عاما, احد قادة حرب العبور, خطط لضربة جوية, وخاض ازمات اقتصادية واجتماعية طاحنة, تحدث عن ازهي عصور الديمقراطية, وبشر بالرخاء والرفاهية( ألم تتزايد الهواتف المحمولة والسيارات الخاصة؟ انكذب الارقام والاحصائيات؟), كرر انحيازه للفقراء ورعاية مصالحهم, ولكن الشعب هب عن بكرة ابيه يطالبه بالرحيل. طلب الرجل من خلال خطاب عاطفي او استعطافي ان يستكمل مدة رئاسته التي لم يبق منها إلا شهور معدودات, فخرجت ملايين الناس تهتف بالرحيل الآن وفورا وحالا. المقارنة تصنع احجية تستعصي علي الفهم, فما الذي يدفع بالناس للهتاف بحياة المنهزم, وسقوط المنتصر؟ وما الدافع لخروج الملايين تطالب ببقاء المتنحي, وتنحي الحريص علي البقاء؟ اتمعن في المشهد المقلوب, وأحاول تفكيك لغز الكيمياء الغريبة التي تربط تلك الجموع بجمال عبدالناصر, لعلني افهم. * هل يكمن السر في رؤية محبيه له رمزا للكرامة والحرية, ثائرا ضد استبداد الاستعمار وطغيان الاحتلال؟ قد يكون الامر كذلك, فهم يرونه اول من عامل حكام الغرب بندية, ورفض استعلاءهم, كون كتلة لعدم الانحياز بينما انحاز للحركات الثورية في العالم شرقه وغربه, ودعمها قولا وفعلا, حارب في اليمن والجزائر, وتساقطت الانظمة الموالية للاستعمار في العراق شرقا, وليبيا غربا, والكونغو جنوبا امتدادا للحراك الثوري الذي جاء به. لم يتحول عن مبادئه الثورية, ولم يفرط في السيادة الوطنية, ولم يخضع لضغوط اجنبية, ولم يقم بصفقات سرية, ولم يصدر غازا لاعداء الوطن. * هل احبه الناس لانهم رأوه بطلا قوميا؟ فهو من سعي الي وحدة عربية, ونادي بوطن واحد تجمعه قيم ولغة وتاريخ مشترك, فحملت سيارته فوق الاكتاف في سوريا, وباتت صورته معلقة في متجر صغير في احد ازقة المنامة في البحرين, وفي سيارة تاكسي متهالكة في الجزائر. رآه الناس زعيما وقائدا ملهما, لا تابعا أو خانعا او مائعا. * هل أحبه الناس البسطاء لانه عمل بصدق من اجلهم وانحاز بحق اليهم؟ قد يكون الامر كذلك, فهو من تعاطف مع طبقات الشعب الكادحة, ونادي بالعدالة الاجتماعية فتمت اعادة توزيع الثروات والاراضي, وشيدت المصانع, وتوافرت الوظائف, وتضاعفت قيمة الانتاج الصناعي, وتم بناء السد العالي لتوسيع الرقعة الزراعية, وتعظيم الطاقة الكهربية. سعي الي إثراء البلاد, ولم يحقق ثروة لنفسه, لم يبع اصول الوطن او مصانعه. كان بسيطا, مباشرا, عازفا عن مباهج الحياة وبذخها, لم يغير بيته بعدما اصبح رئيسا, ولم يميز اسرته أو ابناءه. واذكر أول ما شاهدت خالد عبدالناصر, كان في انجلترا مبتعثا من جامعة القاهرة لدراسة درجة الدكتوراه في الهندسة, لم يكن هناك ادني علامة علي ان هذا الشاب هو ابن الرجل الذي حكم مصر قرابة عقدين من الزمان, ولولا انه قيل لي ان هذا خالد عبدالناصر ما كنت قد ميزته ولا عرفته,وربما كان المظهر الوحيد الذي يدل علي صلته بجمال عبدالناصر هو سحنته الصعيدية السمراء, أو ذلك الانف المميز الحاد الشبيه بانف الاب. لم تكن حوله ابهة الحكام أوفخامة الرؤساء ولا خيلاء العظماء, كان عاديا, بل اقل, حين تحادثه خافت الصوت هادئ النبرة, ولعله خيل الي ان بنوته فرضت عليه قيودا وهدوءا ورزانة لا تتناسب مع مرحلةالشباب الفوار. كان ابعد ما يكون عن بهرجة الحكام, ولم يفكر ابوه في توريثه الحكم.لعل كل هذه السمات علي المستوي الدولي والقومي والوطني بل والشخصي جعلت عبدالناصر ايقونة محببة رغم ما اعتري حكمه من تجاوزات( تحت ستار تأمين الثورة) خدشت تاريخه وصفحته, ومصادمات مع القضاة, والمثقفين, والاخوان المسلمين. ولكنني اتصور ان السبب الرئيسي في الحب الجارف لهذا الرجل انه لم يستخف بشعبه يوما, لم يتعال علي اهله وناسه ابدا, صدقهم القول دائما, تحدث من القلب مباشرة من فوق منبر الازهر الشريف او من ميدان المنشية, احبهم بصدق فبادلوه حبا بحب. وحين جاءت هزيمة1967, كاللطمة الهائلة, احس الناس ان الحاكم الذي عمل من اجلهم باخلاص أخطأ, خطأ جسيما, ولكنه خطأ امين, وبحسن نية, فغفروا له خطأه رغم فداحته, واعطوه فرصة ثانية, ابوا ان ينكسر الرمز, ويضيع معه الحلم, فخرجت الامة الملتاعة مجددة العهد له رغم الهزيمة. الشعب لايحترم الحاكم الاناني, الذي يفكر في نفسه واسرته قبل شعبه ومواطنيه, الشعب لايحب الحاكم الطاغي الذي يستحوذ علي السلطات والثروات لنفسه واهله ولا يفكر في مشاكل البسطاء من الناس, الشعب لايغفر ابدا للحاكم الذي يتعالي علي بني وطنه, ويستخف بهم, ويعتبر تحركاتهم الاحتجاجية نوعا من اللهو والتسلية لاتستحق الاهتمام. قد يجد من يصفقون له ويشجعونه علي التمادي في غيه, ولكنه سوف يتنبه حين تأتيه صيحة الغضب مطالبة بالرحيل, وفرق بين رحيل ورحيل. تتوالي الدول وتبقي العبر, نسترجعها في ذكري الغالي ابن الغالي بعد اربعين يوما أو أربعين عاما.