رفع القاضي المطرقة واخفضها محدثا دويا جللا.. اشرأبت الأعناق وتطلعت العيون من محاجرها.. وتجمدت الطيور في عنان السماء. وتساءل الجميع: متي ينطق.. متي؟ *** الجموع تتوافد علي قاعة المحكمة ما بين أشخاص معممين, يرتدون القفاطين والجبب يرتلون الأدعية والأناشيد الدينية.. ورهبان مع صلبانهم يترنمون بالاهازيج.. وفتية يركضون في خفة ونشاط وهم يتحدثون في الجوال. رهط من الناس في حلل سوداء ورباطات عنق انيقة, ينتحون جانبا من القاعة يراقبون مايحدث في حذر من خلف نظاراتهم السوداء. نسوة يتلفحن السواد يتقدمن.. يتوسطن الجمع.. ويأخذن في النحيب بصوت مسموع.. الأخبار تتوالي والبرقيات تنهال من كل بقاع الأرض: متي ينطق.. متي؟ *** أمي تبكي امام صورة اخي الشهيد, تحتضن ملابسه تنام علي سريره, وتستيقظ مذعورة في منتصف الليل وهي تهتف باسمة.. مازالت اوراقه علي المكتب ونظارته الطبية, جهاز اللاب توب قلمه الرصاص, دعاء السفر, حقيبة جلدية نصف مفتوحة. تمسك امي وجهي بكلتا يديها وتتمتم: مازالت اشتم رائحة انفاسه بين انفاسك. *** القاعة مزدحمة النسوة الملتحفات بالسواد بدأن في العويل, والاشخاص المعممون يبدلون ادعيتهم بغناء خفيف منغم, رجال غلاظ اشداء بملامح خشنة, وشوارب كثيفة متهدلة, يطوقون القاعة بهراواتهم الخشبية ونصالهم المسنونة, يجربون بنظراتهم الجامدة ارجاء القاعة.. طفل صغير يسأل اباه وهو يمسك ذيل جلبابه المقلم الواسع: متي ينطق يا أبي.. متي؟ *** صور الأجداد معلقة علي الحائط.. يعفرها التراب الناضح من الشروخ. ابي يقول: المنزل قديم.. لابد من ترميمه.. اقول في شرود: البناء الجديد افضل ان التنكيس. يقول مدرسي في الفصل وهو ينهال بعصاته علي احد التلاميذ: فات وقت الاصلاح وتتساءل امي في خوف: البيت سيقع اليوم أم غدا؟ سؤال لا اجد له اجابة. *** القاعة مزدحمة.. الجو حار لايطاق.. الهمهمات تسري بين الجمع, والهتافات تخمد حينما وتشتعل حينا آخر.. اشخاص بسحنات اجنبية.. وعيون خضراء وزرقاء.. يدخلون القاعة في حذر.. يحملون اجهزة تصوير, يمسكون بخرائط ملفوفة بعناية.. ثم يبدأون في فرد الخرائط.. الكل مشغول.. يترقب.. يثبتون اعينهم علي المنصة العالية الخالية, يقرأون اللافتة المعلقة خلفها. العدل اساس الملك وينتظرون *** أبي يقف وسط صالة المنزل, يرمق الشروخ التي تتسع يوما بعد يوم.. يحتار في طريقة الاصلاح وتوقيته.. يحيره تضارب رأي المختصين.. نصائح الاقارب.. ومشورة الجيران ويخاف من سطوة صاحب البيت ونيته المبيته.. يمسح التراب عن صور الاجداد يقول لي وهو يتأهب لصلاة الفجر: جدك كان يملك جوادا في عصر صلاح الدين: وسيفا في عهد طارق وقلبا في عهد تري في اي عهد هذا؟ أما الآن!! الجميع يتزاحمون علي مندوبي الصحف ووكالات الأنباء وقنوات التلفاز الموجودين داخل القاعة.. ليجروا الاحاديث والمقابلات.. لغط.. وصياح.. وهمهمات.. وكلمات تتصاعد في نشوة محمومة مع فلاشات اضواء الكاميرات. احد المراسلين يشوح بيديه متسائلا في عصبية: متي سينطق؟ *** مقابر العائلة فسيحة.. تقوم علي يمين المدخل دكة اسمنتية.. تتسع لجلوسنا جميعا انا وأمي وابي تقول امي بعينين اذبلتهما الدموع: هل يضيع دم الشهيد؟ اقول وانا اتذكر قصائد صلاح عبدالصبور: غدا يروي الارض الجدباء فتثمر نبتا طيبا تشتهيه الانفس, يحمل لنا فأل الطالع يغمرني المكان بعبقه, ونشيجه الابدي, استشعر انفاسه, اقوم انثر الخوص والزهور علي قبره واوزع الرحمة علي النسوة والصبية المتزاحمين من حولي.. تؤرقني كلمات أمي: هل يضيع دم الشهيد؟.تلازمني وساوس لا افلح في قهرها.. اتذكر لطفه وادبه ومداعباته وشجاره ايضا واتساءل: اتري سنعرف طعم البهجة من بعده؟ *** رفع القاضي المطرقة.. خفت الضجيج.. وتوقفت الحركة تماما داخل القاعة.. انطفأت انوار الكاميرات, تعلق الجميع بشفتيه, قالها في لهجة حازمة قاطعة. استمروا.. استمروا. ثم انصرف فيما ترك القاعة في مشاحنات وتبادل اتهامات وعراك لاينتهي. مهاب حسين مصطفي