من المعلوم أن شعر الفصحي هو الانطلاقة الفكرية الأولي للعرب.. سجلت فيه مفاخرها ومآثرها وتبارت فيه حربا وسلما فكان ديوانها الفصيح وتراثها المليح وبضاعتها المزجاة يقيمون لها الأسواق ويفتحون لها المعارض. ويخضعونها للنقد والتمييز علي نحو ما كان يصنع النابغة الزبياني في سوق عكاظ وظل الشعر هو السلاح المقدم علي كل لسان وقد بلغوا فيه وفي نظمه شأوا بعيدا وتربت أجيال الأمة علي تحليله وتذوقه واستظهار ما فيه من قيم جمالية ومناهج نقدية وخصائص أسلوبية ومقارنات أدبية وتجارب ذاتية وشمولية استقامت بها المسيرة العلمية والأدبية في أبهي عصورها وأزهي أزمانها. وقد امتدت شجرة الشعر التي غرسها الأوائل من أمثال امرؤ القيس وأبي تمام وغيرهما حتي تفيأ ظلها وارتوي من نبعها وهضم ثمارها الأبناء المخلصون من الشعراء المعاصرين الذين لم يقطعوا صلتهم بالقديم ولم يذوبوا فيه فكان شعرهم يجمع بين جلال الماضي وعبق الحاضر وإرهاصات المستقبل ومن بين هؤلاء الأبناء الشاعر الشاب السيد زكريا توفيق والذي اخرج الينا ديوانه( نغم أخير) والذي ينم عن شخصية صاحبه الثائرة علي الواقع المر الأليم, أنه يحاول أن يحطم السدود ويفك القيود بهذه اللغة المدمدمة وبهذه المعاني الفائرة في كيانه والتي يبوح بها في كل قصائد الديوان حتي غدت كل قصيدة موجة هادرة في هذا المحيط الذي يكابده, ومن أجل هذا الغد الذي ينتظره. وفي قصيدة عرس الفوانيس الدموي يشخص واقع مجتمع الاسياد الذي قضي علي احلام العبيد بل علي نومهم مع سخرية لاذعة من هذا الواقع. حيث يقول: أنا لست ملما بالحرية بل أتسرد حين تهب الريح أتقوقع شيئا ما.. في روض الوهم أتعملق في الأحلام لكني قبل نهاية حلمي ها أنا ذا أتوجس خوفا فالغابة ممنوع فيها الحلم ممنوع فيها النوم الا لقطيع الاسياد ويشخص الزمان المظلم الذي يلف المدن بسواده القاتم فيقول في قصيدة( مقاطع من حلم مهمل): الليل يفترس المدن والصمت ينعق في رفاة الصبر يهتك شدوها المكتوف يبذر في رماد الغيم واحات الدمن فأحس اني في جليد النزف رغم القصف يقبض في دخان للإجابات الوئيدة للسؤال الحائر المطروق في مرمي الزمن ويكرر المقطع( الليل يفترس المدن) تعميقا لهذا الاحساس المأسوي والذي يفرض حالة من الجمود والانكسار الذي تغلغل في قلوب الرجال والنساء والصغار حتي الطيور هدمت اعشاشها في وضح النهار ويتعمق في هذا الوضع الدموي المثير فيقول في قصيدة( العزف بلا اوتار) وسمعت كل تأوهات بذورنا الموؤودة العذراء تحت الجلد تصرخ في جمود اليأس حبلي بالنماء لكنه الترح المضفر بالضلوع القفر يأكل أي نبت شب للأمل المشرنق في صفاء النهر في جب الفضاء وتبلغ الحسرة مداها في قلبه الواله الجريح عندما يقول في قصيدة( وسادة الجرح القديم): ويمر عام بعد عام لم نذق طعما لعيد خمسون عاما قد مضت بل قد يزيد والجرح نفس الجرح منسكب الصديد ويكرر العدد( خمسون عاما ياهدي) يخاطب زوجته وأقرب الناس اليه وهو ينام فوق وسادة الجرح القديم, أنها الجروح الغائرة في صميم فؤاده والتي شملت الزمان والمكان ومع ذلك يتمالك نفسه ويغالب الاحداث ويصابر الأيام ويقول في قصيدة( تجاعيد انكسار) لسوف أعود كالخنجر لسوف أعود قنبلة موجهة لنسف الجور والظلمه ويعلن عن طريق هذا البعث الجديد الذي يراه المستقبل الباهر وذلك في قصيدة( تعالي نحب) يقول: تعالي نجرب فن التفاني ونحيا حياة بنصفي قلب تعالي لننسي زمان التنائي ليطوينا في الحب حلم ودرب أنه يلح علي هذا الخروج بقوة واقتدار ويكرر الفعل تعالي ثلاثا وأربعين مرة أملا في هذا الخروج الذي يفضي به الي العالم الذي يود أن يعيش فيه وان يكون هو الحاضر الماثل امامه ولذلك كثرت الأفعال المضارعة في هذه القصيدة لما لها من قدرة علي استحضار الصور المأمولة والحياة المشرقة وتأمل تتابع هذه الأفعال: تعالي لنروي ذبول الأماني ونحيي... ونغرس.. ونسجد... ليرسل.. يزيل... تطيب... وتطفئ... ونبذر.... انه الاصرار علي مغالبة الأحداث والثورة من أجل الخروج والتغيير وقد تعامل الشاعر مع هذا الزمن اللغوي تعاملا فنيا فالذكريات يصوغها بالفعل الماضي اما الواقع الماثل فنجد الشاعر يلتحم فيه بحركة ثورية مناضلة ويعبر عن آماله وطموحه بالفعل المضارع الذي يستحضر به هذا الواقع الذي يستشرف اليه ويضاف الي هذه اللغة القوية النبض العالية الثراء هذا التكثيف المجازي الذي نلحظه في كثير من صوره