أظهر استطلاع حديث أن البريطاني يعتذر في المتوسط ثماني مرات يوميا بينما يردد الفرنسي اعتذاره ضعف هذا الرقم, فثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ تمثل جزءا أساسيا في ثقافة الفرد في الدول المتحضرة, وأذكر اعتذار الرئيس الفرنسي ساركوزي في فبراير2008 إثر تعنيفه أحد المواطنين برفض مصافحته أثناء المعرض الزراعي السنوي في باريس وتعصبه عليه, وقال انه كان عليه الا يفقد اعصابه وينفعل علي هذا الشخص رغم قول هذا الشخص لسركوزي أغرب عن وجهي. واعتذار جوردون براون, رئيس وزراء بريطانيا الاسبق لسيدة اثناء جولته الانتخابية, حين هاجمته السيدة في مناقشة ساخنة امام الكاميرات وفشل براون في ان يقنعها بحصافه سياسته, وعاد الي سيارته ونسي الميكروفون المحمول مفتوحا والذي استمر ينقل علي الهواء حديثه الي مساعديه في السيارة واصفا السيدة بأنها مصيبة, ووجد براون نفسه في ورطة قبل أيام من إجراء الانتخابات فاتصل بالسيدة ليعتذر لكن ذلك لم يرضها, فظهر علي التليفزيون امام الشعب البريطاني وصرح بانه يلوم نفسه, وانه لن يكرر ذلك ابدا, وكرر اعتذاره للسيدة. وليس الأفراد فقط من يعتذرون فالأنظمة والدول أيضا تعتذر, فهذا رئيس الوزراء الياباني يقدم اعتذار بلاده عما بدر من أخطاء أثناء احتلالها لدول شرق آسيا, وعن الأضرار التي سببتها لشعوب هذه البلدان, واعتذار رئيس وزراء استراليا للسكان الأصليين عما فعلته الحكومات المتعاقبة علي مدي قرنين من الزمن بحقهم من اقتلاع وتهميش وقمع وتفرقة عنصرية مما سبب لهم الكثير من الآلام والتخلف. كذلك اعتذر رئيس وزراء كندا رسميا للهنود الحمر بسبب قيام كندا بمحاولات لطمس هويتهم, وإجبار80 الف طالب علي ترك عائلاتهم ووضعوهم في مدارس داخلية بهدف قطع الصلة بينهم وبين حضارتهم والقضاء علي مايسمونه ظاهرة الهنود الحمر, وكذلك اعتذار رئيس الوزراء الايطالي برلسكوني لنجل عمر المختار عن إعدامه وانحني امامه وقبل يده امام العالم وكان اعتذارا تاريخيا تم التصديق عليه من مجلسي الشيوخ والنواب الإيطاليين. مشاهدة كل هذه النماذج تدعو للتساؤل: هل من المستحيل ان يعتذر أحد ممن شاركوا فيما جري في مصر قبل ثورة25 يناير خاصة وان الدمار الذي احدثه النظام البائد في شتي مجالات الحياة غير مسبوق؟ فالفساد الذي استشري في عهده قد استلزم ادوات تشريعية وقانونية ورقابية وقنوات تواصل وتنفيذ وكان بها عدد لابأس به من المسئولين والسياسيين والقانونيين والبرلمانيين وغيرهم شارك في افساد او الاستفادة من افساد هذه الحقبة السوداء في تاريخ مصر, والإعتذار من كل هؤلاء أهم شروط التسامح والعفو, والمشكلة التي نواجهها هي ان احدا من هؤلاء لم يعتذر ولم يطالب الشعب بالعفو, فلا مبارك اعتذر ولا زبانيته, ولم يعتذر اي مسئول زور في قراره, أو قانوني فصل قانونا سيئ السمعة, ولاشخص استولي علي اراض بالتحايل, ولا صحفي باع قلمه لأمن الدولة ولا ضابط عذب وأهان مواطنا. الجميع التزم الصمت والغالبية انكرت, بل خرج علينا الفلول في الاعلام بهجوم شرس, يشككون في كون ماحدث كان ثورة وانه كان في صالح الشعب, وأنه كان مدبرا من قوي خارجية, بل وحملوا الشعب انتشار الفوضي والانفلات الأمني, مع ان الجميع يعرف ان هؤلاء البلطجية كانوا يوما ما في خدمة الامن ورجال النظام يوظفهم في الانتخابات وقمع التظاهرات وكنا كشعب شاهدين علي هذه الخدمات. هؤلاء الفلول الذين يدافعون عن مبارك بعد ان اغرق بلدا من اجمل وأعرق بلاد الدنيا في الفقر والفوضي وأراد ثوريث بقاياها الي ابنه, كيف لا يعتذر احد عن تخصيص عشرات الملايين من الافدنه, ضعف مساحة بعض الدول كما قدرها البعض, لعدد من الأشخاص ببلاش؟ كيف لايعتذر احد عن تصدير الغاز لإسرائيل بسعر دولارين للمتر المكعب بينما السعر العالمي12 دولارا؟ كيف لا يعتذر احد عن تحويل الوطن الي سجن كبير؟ فمتوسط المسجونين لاسباب سياسية وصل إلي15 ألف مسجون سنويا وأن هناك ما لايقل عن2.5 مليون شخص دخلوا السجن لأسباب سياسية وعذب مئات الالاف وقتل كثيرون تحت التعذيب في حكم مبارك كما صرح احد الخبراء الدوليين. كيف لايعتذر احد من صفوف الحزب الوطني المنحل وقياداته عن كل ما اقترفوه في حق مصر؟ كيف لايعتذر احد من الاعلام عن شحن الناس وتشويه صورة شباب الثوار؟ كيف لا يعتذر احد من الداخلية عن تعاملهم بوحشية وعنف مع العشرات من المظاهرات, وغياب الامن المتعمد لإثارة الرعب والفزع في الدولة؟ كيف لايعتذر احد عن إطلاق كتائب القتلة والبلطجية علي المعتصمين في مشهد مثل عارا علي الدولة وسابقة في تدني وإنعدام الرؤية؟ لقد تقدم علي السرياطي رئيس جهاز الأمن في عهد بن علي بالاعتذار العلني في أثناء محاكمته طالبا من الشعب التونسي مسامحته علي ما فعله, فأين انتم يا أهل داخلية مصر؟أقول ذلك وأنا أحيي إئتلافات شباب الشرطة التي ظهرت في أكثر من مناسبة معبرة عن آسفها وعدم تضامنها مع الفاسدين وهذه خطوة في الطريق الصحيح نتمني ان تتبعها خطوات وتوضح لنا نسبة هؤلاء من مجموع الضباط حتي يكون صوتهم معبرا. وفي موقف مناقض نجد فلول النظام يكابرون ويمتنعون عن الاعتذار وبدل من أن يوضحوا إدراكهم لحجم الخطأ فإنهم يطالبون الناس ان يتقبلوهم كما هم وهذه هي المأساة, فالخطأ سمة من سمات البشر, وكلنا معرضون له تحت وطأة ظروف مختلفة, وليس عيبا ان يخطئ المرء, ولكن العيب ان يستمر في خطئه. والاعتذار رجوع الي الحق, واقرار بالخطأ, وإحساس بالندم, وسلوك حضاري وفضيلة تدل علي الثقة العالية بالنفس, الاعتذار من هذه الفئة في مصر الآن سوف يعطي الأمل بتجديد العلاقة بين مختلف الأطراف,ويحث علي تطهير وتحسين وتطوير مؤسسات الدولة بعد الثورة, وهو فضيلة لايقوي عليها إلا من امتلك الرغبة في تصحيح اخطائه. وأيا كانت نتيجة المحاكمات الجارية حاليا والتي علي ما يبدو لن تفرز نتائج مرضية لأحد, فالأدلة والبراهين والأحراز اختفت او في طريقها للاختفاء والشهادات بدلت او حرفت, والذمم بيعت او استؤجرت, وبدل من ان يعتذر لنا مسيء الامس من هؤلاء وهؤلاء اصبحنا نتلمس طريقنا بصعوبة وسط ميئ اليوم, وإن كان البعض قد خاف وقام بالخطأ او التزم الصمت إما طمعا في ذهب السلطان او خوفا من عصاه, فقد ذهب السلطان, وبقي الشعب, بقينا معا الضحية والجاني, أيا كان من تمت محاكمته او لم يقدم للمحاكمة او لن يقدم من الاساس نظرا لاحتمائه بترسانة من القوانين والإجراءات, وكما قال رسوال الله, الحلال بين والحرام بين, اعتذروا واعتبروا قبل فوات الاوان, فالأموال التي جمعتموها عبر الفساد, سوف تتركونها ليستمتع بها آخرون وسوف تحاسبون وتعاقبون عليها أشد العقاب. أناشدكم يا كل من خان أمانة وضعت في عنقه واستحل عرض الشعب وأرضه, لماذا لاتخافون ربكم وتشترون آخرتكم وتعتذرون قبل ان يصبح الوقت متأخرا وتدخلوا ظلمة القبر؟!