لعل الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري ضد الغياب شبه المطلق للشرعية عن المرجعية التي تدار بها شئون مكتبة الإسكندرية, لدليل دامغ علي التغول الذي يحكم السلوك التسلطي الذي يفتقر لأدني حدود الشفافية والأخلاق , ليس في مكتبة الاسكندرية وحدها بل في جميع الربوع الزاهرة للبيروقراطية المصرية. غير أن الحكم المشار إليه لم يتوقف فحسب عند الإهدار المتعمد للشرعية القانونية, بل تطرق أيضا إلي افتقاد المكتبة لأدني الروادع الإنسانيةالتي نصت عليها المواثيق الدولية واعتبرت ومازالت جزءا لا يتجزأ من القوانين المحلية واجبة النفاذ. فقيام مدير المكتبة بمنع بعض قدامي الموظفين من العمل بل ومن دخول مبني المكتبة إلا بعد تحريرهم عقود عمل مؤقتة, رغم أنهم يحتلون درجات دائمة قبل جلوس إسماعيل سراج الدين علي منصة الإدارة, ليس القرينة الأخيرة علي فساد هذه الإدارة واحتمائها بشرعية الرئيس المخلوع وزوجته التي احتلت, بليل, مقعد رئيس مجلس أمناء المكتبة, لتكون هذه الخطوة هي بداية الطريق للسطو علي أموال المكتبة وعلي جميع مقدراتها. في المقابل لا يكاد المرء يفهم شيئا من ذلك الإسراف الإعلامي الذي يمارسه مدير مكتبة الاسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين, في تأكيده المتصل علي انعدام صلته أو معرفته بالحسابات المملوكة للمكتبة في ذمة الرئيس المخلوع حسني مبارك وزوجته السيدة سوزان ثابت. تلك الحسابات التي تمثل الآن واحدة من أبرز الاتهامات الموجهة للرئيس وزوجته. وهي وإن لم تكن تعبيرا دقيقا عن الحجم المفزع للأموال المصرية المنهوبة, إلا أنها تعد أقصي التعبيرات فجاجة علي هذا السطو الفاضح وغير الأخلاقي علي مقدرات البلاد. وقد تابعت, بحكم عملي, عشرات البيانات التي صدرت عن المكتبة, وكذلك عشرات من تصريحات مديرها, بعد الاستماع إلي أقواله أمام النائب العام حول الواقعة, وتأكيده علي جهله بموضوع ومكان تلك الأموال وأشخاص حائزيها. ثم أصدرت المكتبة بيانا مطولا منسوبا لمجلس أمنائها يجدد الثقة في سراج الدين, وهو إجراء غير مسبوق في تاريخها. فالمجلس طبقا لقرار إنشائه لا يجتمع سوي مرة واحدة سنويا, وهو الأمر الذي يعني أن انعقاده في غير دور الانعقاد يشير إلي أن حادثا جللا قد وقع, ومن ثم كان يجب أن يحاط الرأي العام, الثقافي علي الأقل, بتفاصيل مثل هذا الاجتماع بدلا من هذا التغييب المتعمد للحقائق, بنشر وقائع مبتسرة لا تستهدف إلا المزيد من تعمية وتجهيل عامة الناس وخاصتهم علي السواء. فالبيان الذي صدر عن المكتبة, بشأن اجتماع المجلس, لم يوضح عدد أو أسماء الحضور ومن قام منهم بتجديد هذه الثقة ومن تحفظ عليها, كما لم يكشف البيان عن صاحب الحق في دعوة مجلس الأمناء وهو, طبقا للقانون, شخص رئيس الجمهورية باعتباره رئيس مجلس الرعاة حيث تنص المادة الرابعة من القرار رقم76 لسنة2001 بتنظيم وإدارة شئون المكتبة علي أن... يجتمع الأمناء مرة كل سنة, وله أن يعقد اجتماعات استثنائية بدعوة من رئيسه, أو بناء علي طلب من نصف الأعضاء علي الأقل. ويكون اجتماع مجلس الأمناء صحيحا إذا حضره أغلبية الأعضاء, وتصدر القرارات بأغلبية أصوات الحاضرين, وعند التساوي يرجح الجانب الذي منه الرئيس.. في الوقت نفسه لم يوضح بيان المكتبة شيئا عن طبيعة اجتماع مجلس الأمناء ولا مدي اكتمال نصابه القانوني حيث إن التصويت يكون بترجيح الأغلبية ولا يكتمل نصابه إلا بتوافرها حال غيبة الدعوة من الرئيس بغيابه عن رئاسة الدولة, فهل حضر العدد المقرر من أعضاء المجلس, وهم ينتمون, حد علمي, لعدد من مختلف الثقافات والأقطار: الأمريكية, الهندية, الباكستانية, الأفريقية, الأوروبية, والعربية بالاضافة إلي المصرية بطبيعة الحال. سراج الدين.. نظيف اليد هذه الاسئلة وغيرها, لا تقصد, لا سمح الله, إلي التشكيك في ذمة الدكتور إسماعيل سراج الدين, فالمتواتر عن سيرته يشير إلي انه رجل نظيف اليد. لكن هذه الاسئلة وغيرها مصدرها ما يقر في يقيني ويقين غيري, بأن سراج الدين يعلم علما نافيا لأية جهالة بحقيقة الأموال التي استولي عليها الرئيس المخلوع وقرينته, ويبدو نفيه الملحاح لهذا العلم مثيرا للشكوك, ويتعاظم الأمر كلما أصر علي إنكاره هذا العلم. ويقيني هذا قائم علي شاهدين اثنين. الأول: أن الرئيس المخلوع وقف بنفسه أمام جميع وكالات الأنباء العربية والعالمية عام1991 في المؤتمر الصحفي الذي عقده في مدينة أسوان للإعلان عن وضع حجر الأساس للمكتبة ليقول ان أموال التبرعات ستذهب إلي حسابه الشخصي, مبررا ذلك بخوفه علي هذه التبرعات من التبديد والسرقة, ومن ثم فهو علم توفر للجميع وسراج الدين في مقدمتهم, وكونه يحاول انكار هذا العلم الذي توفر لخاصة الناس وعامتهم يبدو أمرا مثيرا للريبة والدهشة كما أسلفنا. تلك الرواية التي سمعتها من رائد علم المكتبات الدكتور شعبان خليفة قبل حوالي تسع سنوات, وترددت كثيرا في روايتها علي لسانه, غير أن قيام الرجل, علي استحياء, بإعلان جانب منها في جريدة الأخبار ثم الوفد أعفاني من هذا الحرج. ففي عام2002 التقيت الأكاديمي المرموق وأظنه كان لم يزل عضوا بمجلس أمناء المكتبة, وبعد انتهاء الحوار أخذنا الحديث عن تأخير افتتاح مكتبة الاسكندرية لزمن وصل إلي خمس سنوات, فأجابني الرجل بحسرة عالم أعزل: السبب هو مبارك. كيف ذلك؟. في مطلع عام1991, يحكي خليفة قصة المؤتمر الصحفي الذي أشرت إليه في الشاهد الأول, ثم يضيف: في نفس يوم مؤتمر أسوان وصل حجم تبرعات الحكومات العربية والأجنبية إلي حوالي مائة وخمسين مليون دولار, وضعها مبارك في حسابه الخاص وعندما بدأت الأعمال الإنشائية بالمكتبة, رفض مبارك دفع أي أموال, وكان يحيل الأمر إلي وزارة البحث العلمي للصرف علي هذه الإنشاءات. وكان من نتيجة ذلك أن كانت الوزارة تدفع معظم ميزانيتها في بداية العام ويتوقف نشاطها علي مدار العام بسبب نفاد التمويل, وقد استمر هذا الوضع حتي عام1995, ولم يكن أحد يجرؤ علي مطالبة مبارك بسداد مستحقات الإنشاءات من حسابه الذي هو حساب المكتبة, وكانت النتيجة الحتمية هي توقف الأعمال الأنشائية للمكتبة لمدة ربما وصلت إلي الخمس سنوات, حيث كان قد تقرر افتتاحها في1995, أما الواقع فيقول إن افتتاحها لم يتم سوي في عام2001, بعد أن عجزت ميزانية وزارة البحث العلمي عن الاستمرار في سداد نفقات الإنشاء, وهنا ينتهي شاهدي من حديث الدكتور شعبان خليفة. عقب الافتتاح كان علي مبارك أن يقوم بإيداع هذه التبرعات في حسابات المكتبة طبقا لنص المادة السادسة من القرار الجمهوري رقم1 لسنة2001 الصادر بإنشائها والتي تنص في فقرتها الثانية علي أن... يكون للمكتبة حساب خاص في البنك المركزي المصري أو في أحد البنوك التجارية بموافقة وزير المالية تودع فيه حصيلة مواردها, ويرحل فائض هذا الحساب من سنة مالية إلي أخري. غير انه بدلا من أن يفعل ذلك قام بوضع المكتبة, بقضها وقضيضها, تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية باعتقاد أن ذلك يمنحه الحق في الاحتفاظ بتلك الأموال. من هنا, كان علي سراج الدين, بدلا من هذه البيانات التي تكتظ بالرطانة, أن يطالب رئيس الجمهورية بنقل هذه التبرعات من حسابه الشخصي إلي حسابات المكتبة, وكان عليه أن يقدم لجهات التحقيق ما يفيد قيامه بهذه المطالبات, وإلا فإنه, طبقا لأحكام قانون العقوبات, شريك في تسهيل الاستيلاء علي المال العام, قصد ذلك أم لم يقصد. فالحقيقة أننا لم نكن في حاجة إلي كل هذه البيانات ولا تلك الاجتماعات التي تنعقد وتنفض لتجديد الثقة بالحق حينا وبالباطل أحيانا. وأدني درجات الشفافية كانت تقتضي اعترافا بالحقيقة, كما كانت تقتضي كذلك الاعتراف بأن اللحظة التي كان يجتمع فيها مجلس الأمناء لتجديد الثقة في سراج الدين, كان العاملون في المكتبة يتظاهرون, بشكل صاخب, للمطالبة برحيله. فهل سيكون مصير موظفي المكتبة هو نفسه مصير أموالها المنهوبة؟!!