فن تراثي مصري أصيل يحمل بين ثناياه عبق التاريخ وأنفاس صانعيه, وأسرار المهارة اليدوية التي ترفض أن تتحول إلي ذكري, وتتمسك بالدقة والصبر في إبداع روائع من الخشب المطعم بالصدف, في حالة من الصمود الجميل أمام كل الصعوبات ومغريات الكسب اليسير. لتبقي الروائع التي يقدمها لها خصوصيتها النابعة من تفرد مصر من بين دول العالم بتقديمه كفن يدوي خالص في كل مراحله. وفي ورشته التي تحتضنها واحدة من أعرق المناطق المصرية التي تحفر فيها الأنامل أجمل الفنون التراثية, وتعيد تطويع الخامات لتشكيل الوجدان والذائقة البصرية لعشاق هذه الفنون, وحيث الأصالة التي تحيط به من كل جانب ما بين الغورية والحسين وخان الخليلي, بالتحديد في حوش آدم التقيت بالفنان إيهاب عبده في ورشته التي تحتار فيها العين! فأي إبداع وجمال يمكن لها أن تتأمله وتتغذي بتفاصيله! فكأنك أمام متحف ينعش ذاكرة الفن عبر تكوينات وتصاميم فريدة من الصدف, لاسيما في حضور أساليب وتشكيلات جديدة عرف التطوير طريقه إليها, فتطل عليك في ورشته العلب الخشبية المطعمة بالصدف, وأطباق الزينة والبراويز والمزهريات والكراسي والطاولات وقطع الأرابيسك التي تضيف المزيد من الجمال والأصالة إلي فن الصدف. يقول إيهاب: التطعيم بالصدف هو عبارة عن زخارف وتصاميم هندسية, نشكلها بحسب الشكل الذي نريده علي الخشب, لنطعم به الصدف, وتبدأ مراحل العمل باستقبال صدف البحر الياباني أو الأسترالي أو العماني أو الذي تم جلبه من البحر الأحمر, فنقوم بتجهيزه وتشكيله, بطريقة يدوية, وباستخدام الرباط الهندسي وتحديده أقوم بتسقيط الصدف فيه, وهو أمر يحتاج إلي تركيز وجهد ودقة بالغة, إذ ينبغي أن تكون كل قطعة أو كما نطلق عليها كل فضلة بنفس حجم وشكل سائر القطع بالضبط, وألا تزيد أو تقل ولو مليمترا واحدا, بحيث تلحم القطع في بعضها الآخر, وإلا لن تعطي الشكل الجمالي النهائي المتكامل, وبعد الانتهاء من مرحلة وضع الصدف, توجد بعض الفتحات الصغيرة للغاية التي تكون كالمسام المفتوحة, فيتم سدها باستخدام البوليستر أي الصب الخام ثم نجففه عن طريق مادة تستخدم خصيصا لهذا الغرض, ثم تتم الصنفرة باستخدام الصاروخ, ومنها ندخل إلي المرحلة الأخيرة. وهي مرحلة التلميع. ورث إيهاب المهنة عن والده, يقول: فتحت عيني علي الدنيا أري والدي في الورشة يعمل ليلا ونهارا, ومنذ كنت في الخامسة من عمري تأملت يديه, وهي تقطع وتشكل وتبدع حتي تشربت الفن وأسراره. ويؤكد ايهاب: أن مصر تنفرد من بين دول العالم القليلة للغاية التي تقدم هذا الفن بأنه فن يدوي خالص في كل مراحله, ولا تستخدم الليزر والآلات في إبداعه, ولذلك هو في مقدمة الفنون اليدوية التي يحرص السائحون علي اقتنائها عند زيارة مصر, فهم لا يجدون مثلها في أي مكان آخر بالعالم, ويكاد يكون أيضا فن التطعيم بالصدف هو الفن الوحيد الذي فشلت الصين تماما في تقليده, نظرا لاعتماده علي العمل اليدوي بشكل كامل, وهو من المستحيل أن توفره له الصين. ويلفت إيهاب: وتضم منطقة حوش آدم أشهر أسطوات مصر في هذا الفن, منذ عشرات السنين, وهم الذين علموا الحرفيين في مصر كلها, وقد تميزوا بالدقة وجودة التشطيب ومهارة الصنع, وجانب كبير منهم كانوا تلاميذ مدرسة الوالدة باشا التي كانت تعلم فن الصدف, ولعبت دورا كبيرا في نشره بمصر. ويضيف في حواره لواحة الأهرام المسائي: لكن للأسف يواجه هذا الفن الآن شبح الاندثار, بعد أن تم غلق عشرات الورش في المنطقة لرحيل أصحابها, في حين أن الأجيال الجديدة تنصرف عن تعليمها لعدم وجود أماكن جادة في تدريسه بالطريقة الصحيحة التي تضمن لهم تأهيلهم ووصولهم إلي مستوي حرفي رفيع, ولذلك نجد أغلب خريجي المدرسة الصناعية, أو قسم الزخرفة بالكليات الفنية عاجزين عن تقديم عمل فني حقيقي, وبالتالي لا يجدون عملا ولا مكانا في سوق العمل, بل إنهم يأتون إلينا لننجز لهم قطع مطلوبة منهم كمشاريع للتخرج, وهو مايثير داخلي الأسي علي مهنتي ومستقبلها! وينبه إيهاب: إن حماية هذا الفن من الاندثار هو واجب قومي, لأنه جزء من مصر, ولأنه من الممكن أن يدخل العملة الصعب للدولة, فالأجانب يعشقون هذا الفن, وفي حالة ما إذا تم التوسع في إنتاجه, وتم تقديم أجيال قادرة علي إبداعه, ووجود خطة لتعليمه وتسويقه وتصديره هو وسائر الفنون التراثية, فإن ذلك كفيل أن يحقق لمصر نقلة اقتصادية وحضارية. ويعلق مصطفي كامل الباحث في الحرف التراثية قائلا: انطلاقا من ذلك كله تهتم مبادرة يالا علي الورشة التي أطلقتها مؤخرا بحرفة التطعيم بالصدف, وستتم إقامة ورشة لها في20 من سبتمر الجاري, وستجمع بين التعرف علي أسرار الحرفة من الحرفي نفسه, وإتاحة الفرصة للتسويق, بهدف منع اندثار الحرف التراثية, ومساعدة الشباب في إيجاد فرص عمل.