يطوف شوارع مصر وحاراتها يحمل حقيبته الصغيرة, وكاميراته الخاصة ليوثق للحرف التراثية انطلاقا من اعتقاده الراسخ أن في المحافظة علي هذه الحرف وإحيائها حفظا لهوية مصر وتأسيسا لنهضتها الصناعية.. هو الباحث مصطفي كامل أو الطواف كما يطلق عليه أرباب الحرف, فهو لا يترك مكانا في المحروسة إلا ويبحث فيه عن كنوزها من الحرف التراثية والأيدي الماهرة التي لا تزال تبدعها وتقدمها للإنسانية ليصبح بين أيديها قطعة غالية من تاريخ مصر وحضارتها, ونتيجة لجهوده المستمرة نجح في أن يوثق لمعظم فنوننا التراثية, ربما لأول مرة بهذا الشكل المتكامل والميداني النابع من قلب الورش وبحكاوي الحرفيين أنفسهم, ولا يقل أهمية عن ذلك أنه نجح في مد جسور التعاون بين الحرفيين وبعض الجهات المعنية في مصر مثل المتاحف والمراكز الثقافية, في الوقت الذي أطلق فيه مبادرته يالا علي الورشة للتدريب علي الفنون التراثية علي أيدي أرباب الحرف في ورشهم. يقول الطواف في حديثه ل واحة الأهرام المسائي: فتحت عيناي علي الحياة وحولي كنوز مصر من الآثار ومشايخ الحرف التراثية; حيث نشأت في منطقة الدرب الأحمر الزاخرة بالأماكن الأثرية وورش الحرف اليدوية, بجانب ما غرسه داخلي أبي من حب للتاريخ ولوطني, وأدركت منذ طفولتي أنه حيث توجد الآثار أو الطبيعة الساحرة تولد الحرف التراثية, ولعل لذلك هو السر وراء شهرة المناطق الغنية بالآثار أو جمال الطبيعة بالفنون اليدوية في وجود الأجواء المتفردة التي تساعد علي الإبداع, ومن ذلك منطقة الدرب الأحمر وشارع المعز وسيناء وسيوة وغيرها. تضافرت كل هذه العوامل في دفع مصطفي إلي تبني مشروعه الثقافي الذي أطلقه عام2015 لتوثيق الحرف التراثية بجهد ذاتي, فبعد الانتهاء من عمله يوميا ومحاضراته في دبلومة آثار مصر القديمة بكلية الآداب جامعة عين شمس, يأخذ حقيبته وهاتفه المحمول والكاميرا الخاصة به, ويتجول في شوارع مصر بالمناطق المختلفة لزيارة الورش, وفي الإجازات الأسبوعية والموسمية يسافر خارج القاهرة ليفعل الأمر نفسه, وكانت البداية من حارة عبد الله بك; حيث تشأ في الدرب الأحمر الزاخرة بالورش, وحيث تحيط به الأسبلة العثمانية والمساجد والمدارس الأثرية, وحيث أيضا يتم تداول الحكايات والأساطير وقصص التراث مثل سيرة أبو زيد الهلالي, فلهذه المنطقة المفعمة بالعراقة والأصالة والتي لم تأخذ حقها بعد علي خريطة مصر الثقافية والسياحية علي حد تعبيره أراد الطواف أن يوثق فنونها, ثم توسع في فكرة مشروعه ليشمل مصر كلها. فالتقي ووثق للعديد من الفنون التراثية مثل صناعة الحصير والمشكاوات والزجاج والكانيه وحرفة البردي وتكفيت النحاس والنقش علي النحاس, والزجاج المعشق والموزاييك والأويمة والصدف والأرابيسك والسجاد والكليم واليدوي والفخار والجلود, والنحت, وفن النسيج اليدوي, كما التقي بهؤلاء المبدعين في مجال استنساخ الآثار الفرعونية. ويضيف اكتشفت حين بدأت التوثيق مدي روعة فنوننا, ومدي تعرضها في الوقت نفسه لشبح الاندثار, وتحسرت علي ضخامة عدد الورش التي تم إغلاقها أو تغيير نشاطها لمتاجر سلع استهلاكية, وشعرت أن جزءا غاليا من مصر يتم بتره, وأن ثمة مسئولية ما تقع علي كشاب مصري لمحاولة منع هذا البتر مهما كانت هذه المحاولة صغيرة أو متواضعة. يعتمد مصطفي في التوثيق علي أسلوب علمي يستند إلي جانبين أساسيين الأول هو الجانب الميداني; حيث يدخل الورش ويسجل بالصوت والصورة مراحل الإبداع خطوة خطوة, في الوقت الذي يروي فيه صاحب الورشة كل التفاصيل والأدوات والأسرار المرتبطة بالحرفة, ومدي اختلافها في مصر عن أي مكان, كما يتحدث عن أهم مشاهير هذه الحرفة وأماكن تواجدهم, أما الجانب الآخر في التوثيق فيقوم علي الاستعانة بالكتب والمراجع العلمية التي تناولت هذه الحرفة. وحتي يتواصل الجمهور المصري مع فنونه التراثية ويصبح أكثر تقديرا لأهميتها وضع الطواف أعماله علي صفحاته الخاصة علي مواقع التواصل الاجتماعي, كما أنشأ جروبا إلكترونيا خاصا للحرفيين في مصر والمنطقة العربية, يضم1600 حرفي بالإضافة إلي أساتذة الآثار, ومديري المتاحف والمهتمين بالتراث المصري, وأقام جسرا آخر للتواصل بين الحرفيين في مصر والجهات المسئولة, مثل: متحف النسيج ومتحف الفن الإسلامي والبيوت الأثرية مثل: بيت السناري ومحافظة القاهرة وذلك لإقامة معارض وورش حية للفنون اليدوية, بعد أن أقنع الحرفيين بتأثير ذلك علي إحياء حرفهم, وأقنع هذه الجهات بانعكاس مثل هذه الورش علي تنشيط السياحة, وإظهار وجه مصر الحضاري وهو مايصفه قائلا: في الواقع رحب الجميع بالفكرة, وهو ما يؤكد وجود رغبة جماعية للمحافظة علي تراثنا, لكن ما ينقصنا هو التنسيق ووجود جهة حكومية تصبح مسئولة عن رعاية وإحياء الحرف اليدوية. التقي الطواف خلال مشروعه الذي لا يزال مستمرا للآن العديد من الشخصيات التي لا ينساها من أرباب الحرف ومشايخها, يقول عنهم: هم أسطوات مبدعون, يحافظون علي مهنتهم باستبسال, ويخشون موت حرفتهم بعد وفاتهم. أما عن أهم أنشطته خلال الفترة المقبلة فهو اتجاهه إلي دمياط قلعة الأثاث المصري, للتوثيق لصانعي هذه الحرفة التي جعلت دمياط واحدة من أهم مدن العالم ذات يوم, ويحلم أن يتم التوثيق لكل مكان علي أرض المحروسة جنبا إلي جنب الاهتمام بتدريب الأجيال الجديدة من الشباب, ولذلك أطلق مبادرة يالا علي الورشة; حيث قام الطواف بالاتفاق مع عدد من أصحاب المهن التراثية علي تعليم عدد من الشباب كل داخل ورشته, مما يسهم في إيجاد مصدر رزق لهم, ومن ناحية أخري منع هذه الحرف من الاندثار, في ظل تحول الورش إلي مدارس حرفية تضخ دماء جديدة, وسيتجه لشركات السياحة للاتفاق علي إدراج الورش ضمن المعالم السياحية, للمساعدة علي لفت نظر العالم إلي فنوننا, فقد يساعد ذلك علي التسويق. وبقدر سعادة الطواف بمشروعه بقدر حزنه علي ما فجره داخله من خوف علي اندثار الكثير من الحرف! ويتمني أن تسانده الدولة في مشروعه وأن يلتفت رجال الأعمال إلي كنوز مصر ويعملون علي تطويرها.