تتهادي في مشيتها, صبية غضة, لدنة القوام, صبوح الوجه, ناعمة القسمات, في عينيها النجلاوين غموض; فيهما حزن رقيق, وبراءة فاتنة, وخوف لا يمكن إخفاؤه, وقد تمردت خصلة من شعر ذهبي يكاد يفقد بريقه, فخرجت من تحت غطاء الرأس البالي, ذي الألوان الباهتة, وأخذت تداعب جبهة حنطية عريضة, وقد ارتسمت عليها علامات الرهق والتعب, رغم أنها لا تحمل فوق رأسها حملا ثقيلا, فقط إناء من الألومنيوم الرخيص وعدة أطباق, كانت في طريقها لتلتحق بصاحباتها علي شاطئ الترعة الصغيرة لتغسل أوانيها في مياهها العكرة. طقس يومي تمارسه بنات ونساء القرية, قرية كفر الحطبة التي ترقد في دعة وسكون علي فرع النيل الواصل إلي دمياط, ويقطنها نحو خمسة عشر ألف إنسان مصري, يجري الماء أمام أعينهم في طريقه ليتلاشي في مياه البحر المالح, ومع ذلك يعانون العطش, إلا من سرسوب ماء آسن تحمله ماسورة مياه عتيقة, وتنقطع المياه عن بيوتهم الريفية فلا يجدون ماء لغسل ملابسهم وأوانيهم إلا في ترعة صغيرة تعد مرتعا لديدان البلهارسيا والميكروبات التي تهدد حياتهم. علي بعد كيلومترات قليلة, حيث مركز شربين التي تتبعه القرية, أو مدينة المنصورة عاصمة المحافظة الجميلة الدقهلية, يعيش المسئولون في شققهم الفاخرة, تكاد المياه العذبة تغرقهم, يهدرونها في حماماتهم وغسالاتهم الأوتوماتيكية, في مطابخهم ساخنة يغسلون أطباقهم, وباردة مخزنة في ثلاجاتهم, في غسل سياراتهم الفارهة وفي حمامات السباحة في نواديهم التي يرتادونها للترفيه عن أطفالهم, لا يعرفون معني أن تقضي يوما أو بعض يوم بلا مياه, ولا تضطر زوجاتهم إلي دعك المواعين في مياه ترعة أقرب إلي أن تكون مصرفا, لذا لا يبالي هؤلاء المسئولون بمعاناة أبناء الأرض, فهم لا يشعرون بها ولا يعاينونها. منذ أكثر من خمسين عاما, عندما عرفت القري المياه العذبة التي تجري في مواسير, لم يتم تغيير الماسورة الرئيسية التي تغذي القرية, لم يتم تغييرها رغم أنها تآكلت واختنقت وقد تراكم فيها الصدأ, لم يتم تغييرها بواحدة أكبر وأوسع قطرا لتلبي حاجة السكان الذين تتزايد أعدادهم علي مدار السنين, هذه الماسورة التي تمر أسفل محطة القطار تسمح بسرسوب مياه عذبة فقط يصل إلي القرية, قليل من المياه حتي أن الأدوار الأرضية لا تحصل علي المياه إلا باستخدام المواتير التي تعمل بالكهرباء, وكأن المطلوب أن يسكن الناس تحت الأرض ليحصلوا علي حقهم في مياه نظيفة. يشرب الأهالي ماء غير نظيف في قرية كوم الحطبة, تستخدم السيدات مياه الترعة في غسل أوانيهن وملابس الأسرة, والنتيجة الطبيعية هي المرض, البلهارسيا والفشل الكبدي والكلوي تنهش أجساد البسطاء, تضعف قدرتهم علي العمل والإنتاج, تتركهم عالة علي ذويهم الفقراء, وضيوفا غير مكرمين في مستشفيات الحكومة قليلة الإمكانات, ينتظرون دورا لا يأتي ليغسلوا كلية, أو يزرعوا أخري وهبها شقيق أو قريب, أو يحصلوا علي عقار يشفي الكبد لا يستطيعون تحمل تكلفته. يطرق الأهالي أبواب المسئولين, لكن المسئول غير مسئول, يتمتع بكل صلاحيات المسئول, مكتب مكيف, طاقم سكرتارية, سيارة فارهة أو نصف فارهة حسب درجة المسئولية, راتب شهري ومكافآت وبدلات تغنيه وتطغيه, وعندما يلجأ إليه الناس لحل مشكلاتهم التي هي من صميم عمله يصبح غير مسئول, يحتج بالإمكانات القليلة, بقلة الموارد, يحيلك إلي الروتين والخطط الخمسية والعشرية, يطلب موافقات وأختاما تتطلب أسابيع بل وشهورا حتي تحصل عليها. لم يتوان كبار القرية ومثقفوها في اللجوء للمسئولين, طرقوا كل الأبواب, استكملوا كل الأوراق, وختموها بكل الأختام المطلوبة وغير المطلوبة, حتي رق لهم الروتين وأشفق عليهم, وكانت فرحة كبري عندما بدأ مرفق المياه ومسئولو المحليات في إحلال وتجديد الخط الرئيسي, ومرت الأيام بطيئة, التقدم في العمل غير مرض ولا يحقق طموحات الناس, حتي جاء يوم وتوقف العمل, كانت صدمة كبري, لا يتبقي علي انتهاء العمل سوي نحو ثلاثمائة متر فقط, بداية من منزل المرحوم السيد البغدادي حتي منزل المرحوم الجميل رسمي, لا تزال هذه المسافة الصغيرة باقية بمواسيرها الأسبستوس المتهالكة غير المطابقة للمواصفات, بالإضافة إلي الماسورة الأم التي تمر أسفل محطة القطار ومحبس المياه المغذي للقرية. لا يزال أهالي قرية كفر الحطبة التابعة لمركز شربين يناشدون السادة المسئولين, السيد المهندس رئيس مرفق المياه والصرف الصحي بالدقهلية, ويتوسلون إلي كل المسئولين أن يكملوا العمل الذي بدأوه قبل عدة أعوام, ويرفعون رجاءهم ومناشدتهم للدكتور أحمد الشعراوي محافظ الدقهلية, أن يوجه المسئولين لإنقاذ أهالي القرية من المعاناة التي يعيشونها بسبب ضعف المياه الناتج عن عدم استكمال تجديد خط المياه الواصل للقرية, رحمة بهم وبأبنائهم, وحفاظا علي صحتهم من الأمراض التي تفتك بأجساهم.