لا توجد أمة من الأمم ممن سلف وخلف إلا ولها تأريخ تعتمد عليه وتحتكم إليه, خاصة في الملمات وعندما تختل الموازين, فكأنما به تعرف الكوائن الجسام وتعرف به الحوادث العظام, ولولا ذلك لانقطعت الأخبار ودرست الآثار واندثرت العظمة والقدوة والمثل وتاهت الأجيال ومزقتها الأهواء شر ممزق!. نقول ذلك والأسف ملء الصدور علي فائت من الزمان, فلا يختلف عاقلان أننا نعيش اختلالا فكريا ونفسيا عندما تستبد بنا الحادثات فإذ بنا نلجأ إلي الماضي عن قصد أو غير قصد, لا فرق, لا لشيء إلا لأن العلاقة بين الأمس واليوم والغد علاقة مرتبكة ملتبسة في كثير من مناهج التعليم والتربية, فما بين الماضي والحاضر لا تستقيم الموازين, وربما كانت أثقال الحاضر وكثرة همومه تدفعنا إلي الماضي دفعا وتجعله ميزانا توزن به الأحوال وتقدر به الرجال, فما أكثر علامات الاستفهام في حياتنا وما أكثر علامات الدهش, ومع أن الماضي لا يجيب علي هذه أو تلك, إلا أننا نجد فيه مسلاة الهموم وتحسين الأيام والتعزي عن الآلام, ومع ذلك لا ينتبه المسئولون عن التربية والتعليم أن هذه الحالة تبعث علي التفكك والتشكيك, فيأتي السلوك العملي معوجا في شتي مناحي الحياة, وبذلك تتأخر قاطرة التقدم, بل تتعثر فلا نستطيع حراكا للأمام!!. وبرغم محاولات الدولة الدائبة من أجل البناء لا نجد مبشرات تقدم ولا نستشعر تحسن الأحوال الحياتية خاصة السلوك اليومي في المصالح والمرافق والطرقات, إذ يبدو أن المسئول قد غابت عنه مقارنات العباد بين اليوم والأمس, وأن الحياة العملية تقتضي أن نكون جميعنا علي قلب رجل واحد لتحسين الحاضر وعدم النظر إلي الماضي, فكلما ازدهرت أحوال الحاضر كلما تلاشت النظرة الرجعية إلي الماضي باعتباره النموذج والملاذ الأمثل, فمتي ينتبه مسئولو الثقافة والإعلام والتعليم والتربية إلي خطورة تفخيم الماضي علي حساب الحاضر حتي أصبحت لغة العامة تعيش الماضي وتتندر بالزمن الجميل وتترحم عليه وتتمناه يعود ولم تعد تقتنع بالمجهودات الجبارة التي تبذلها الدولة من أجل إعادة البناء فلا الإعلامي بقادر علي تقديم جمل مقنعة ولا المسئول ولا التعليم, فانفصمت عري الترابط المجتمعي بين الحاضر والماضي, فعلي سبيل المثال يتصايح مسئول بقوله: إن زيادة الأسعار في صالح المواطن!!. وآخر يقول: إن جزيرتي( تيران وصنافير) كانتا ملكا لقريش!!. وآخر يلعن رموزنا التاريخية فيحقر من قيمة الناصر( صلاح الدين), وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!. فمتي نهتم ببناء المواطن قبل كل شيء؟!. إن المسئولين عن بناء المواطن جميعهم أجرموا في حق الوطن لأنهم جعلوا المواطن لا يري نفسه في الواقع المعيش ولا يدرك قيمة مجهودات الدولة الجادة وهو ما جعلنا ننظر إلي الماضي باعتباره النور والإشراق والتقدم وغيبنا الأبناء عن قصد أو غير قصد لا فرق عن معايشة الواقع ومناصرة البناء فارتحل الانتماء وهاجرت الأخلاق وتاهت القيم في زحام البدع والرذائل حتي شوهوا خلقة الله( بحلاقة الحمير) والأوشام والتمائم, ولذا نجحت جماعات التطرف التي تدعو إلي التمسك بأصول ماضية وتكفير الحاضر وعودة السلف. فلا نلوم الشباب لأننا غيبناهم وأغرقناهم في بحار الوهم, وصدق القائل: إن المدنية آلام ضاحكة, إن مراجعة أصول البناء يجب أن تراعي الصدق في كل شيء لأنه خلق نفيس يزيد المرء جلالا ويحول شانئيه إلي أنصار أوفياء, فما أحوجنا إلي زعامة الحدث فإن فقدان الثقة يجعل الأمة فردا والثقة تجعل الفرد أمة.