كانت الحياة في عيني لا نهاية لها لا يعرف أسرار السعادة فيها غيري, أركض فيها لا أبالي و ما بالي و أنا لا يعييني تدبير المال و لا في أي شيء أنفقه كما أنه ليس هناك من يحاسبني علي ما أفعل, ليس لي في الدنيا غير امرأة أنا لها كل حياتها, تفرش الأرض من تحت أقدامي سحرا يفتح لي كل الأبواب, إنها أمي جميلة عصرها التي توفي عنها زوجها فأبت أن تهتك ستر حياتي برجل آخر يحتل مكان أبي الراحل في البيت, أغلقت قلبها الفتي عن الرجال إلا مني وقالت لكل من أنبها إنني رجلها و لن تقبل بغيري سندا لها في الحياة. كنت صغيرا أتعثر في خطواتي الأولي علي الأرض عندما توفي والدي وتركني وحيدا في الدنيا إلا من أمي وميراث كبير من المال يضمن لي الأمان و الرفاهية أيضا من بعده, ولأننا كنا أثرياء وأمي بعد صغيرة وتمتلك مفاتيح الحسن والجمال كانت مطمعا لكل الرجال ممن بحيطون بنا من أهل وأصدقاء الكل يتقرب لها طمعا وأملا إلا أنها أغلقت الباب عليهم جميعا وحولت كل طاقات الحب والحنان بل وسعادتها في الدنيا نحوي, أضرب قدمي في الأرض ضعيفة واهنة فأجدها تسندني وتدفع بي إلي الأمام حتي استقرت خطواتي وشيئا فشيئا تفتحت الدنيا من حولي واتسع الوعي مني شابا يافعا يقبل علي الدنيا يغب من ملذاتها بلا حساب, لا أخشي أمي في شيء هي تعطيني كل ما أريد ولا تسألني حتي عندما كنت أتعثر في الدراسة لم تكن تقلق أو تثور وتربت علي كتفي في حنان وتقول لي لا تخف من الدنيا فلديك ما يكفيك ولا يحوجك لأحد وكانت أيضا تكثر من المدرسين الذين كانوا يأتوني خصيصا إلي البيت تخاول في كسب وصبر أن تمهد لي دراستي حتي أنهيتها بشق الأنفس والجهد الكبير ليس مني بالطبع ولكن هو جهدها هي من كانت لا تنام ولا يهدأ لها بال أبدا إلا مني, تخرجت بعد مشوار طويل من اللهو واللا مبالاة في إحدي الجامعات بتقدير يجعلني قابلا لمغادرة التعليم بمعدل النجاح في الحد الأدني منه ولكنه في النهاية يعد نجاحا. وكم كانت سعادة أمي في هذا الوقت فقد نصبت الأفراح وأشعلت مصابيح الليالي الملاح ابتهاجا بهذا النجاح العظيم و النصر المبين. لم تدرك أمي طوال حياتها أنها كانت تؤذيني بحبها و تقتل الحياة بداخلي بتدليلها المرضي, ولم تع أن جموحي وإقبالي علي ملذات الدنيا أشبه بقمة عالية جعلتني أرتقيها بمفردي و بلا وعي مني ثم تركتني أسقط من فوقها و تتهاوي معي كل مفردات الحياة من رغد وسعادة وملذات. كان لابد من غروب لذلك النهار غير المسئول في حياتي ويتلاشي الضوء منها شيئا فشيئا, ولكن ليله كان شديد العتمة حالك السواد, انطفأت بهجة الدنيا فجأة ولم يكن في ليلي غير سماء باردة بلا قمر أو أمل في أن ينقضي سواده إلي نهار جديد فقد دهمني فجأة وأنا بعد علي أعتاب دنيتي الفتية شابا في مقتبل العقد الثالث من عمري مرض شرس لايرحم نشب أنيابه السرطانية في جسدي يلتهمه بلا هوادة, وتوقفت دائرة الحياة في قلب أمي حزنا وكمدا وسعيا بي علي أكبر المستشفيات في مصر والخارج أملا في علاج يكون فيه الشفاء ولكن حالتي خرجت عن حدود السيطرة سريعا و لم يعد هناك غير انتظار أمر الله بالرحيل. علي فراش النهاية أرقد وأجتر الذكريات من حياتي فلا أجد لها قيمة, لم أفعل فيها خيرا يذكر لأحد إلا من نفسي ولنفسي كنت أنظر إلي أمي وهي تصلي أو تبذل من مالنا صدقة جارية علي الفقراء وأبتسم ابتسامة باهتة ساخرة بلا مبالاة وها أنا راقد تكبلني أغلال الندم علي كل هذا, كيف لي أن ألقي الله وقد أوشك الرحيل ولم أدخر لآخرتي شيئا إلا من سعي وراء ملذات الدنيا غير أني لم أتسبب يوما في إيذاء أحد, كنت أحيا كما يتفق لي, تجاهلت عبادتي وحق ربي علي ولم أدرك قيمته إلا وأنا في أغلال الرحيل, أصلي راقدا, عاجزا, لا أدري من أمري شيئا, هل يقبل مني ربي صلاة أو عبادة و أنا في حالي هذا.. هل يتوب علي وأنا التائب علي أعتاب الرحيل؟ أمي مازالت تقرأ القرآن إلي جوار فراشي كم هي رائعة آيات القرآن في أذني, أتصور أن ربي يتحدث إلي و كأنه يبعث بالطمأنينة إلي قلبي, تقع كلمات القرآن بصوت أمي بلسما وسكينة لآلام مبرحة تجتاح جسدي المنهك بإرهاصات الرحيل, أطرب لصوت أمي وهي تتلو آيات الله وكأني لم أطرب لشيء من قبل أو من بعد. أنظر إليها في شفقة فقد شاخت حزنا وهما فجأة, تجرعت آلام المرض والخوف وترقب الرحيل معي, كيف لي أن أتركها في الدنيا وحيدة وأنا دنيتها وسعادتها؟ لك الله يا أمي يترفق بك فأنت كنت منه الأقرب لا تغادرين صلاتك وتعرفين حق الله في عباده من مالك, أما فلسوف أستند إليك في رحيلي تماما كما استندت إليك في الدنيا, لن يصاحبني غير دعائك الصادق لي, أعرف أنه سوف يضيء لي الطريق حتي باب الرحمة ولا أمل لي إلا في رحمة الله و غفرانه. م. ج. ع ترفق بنفسك يا ولدي ويكفيك ألما وعذابا ما تعانيه من مرض وترقب مخيف لنهاية مفاجئة داهمة لحياة كانت تشع نورا وبهجة, ربما كانت ظروف حياتك ونشأتك وحيدا ويتمك في مهد طفولتك وحب أمك الشديد لك له الأثر الأكبر في سلبيات حياتك ولكني لست معك أنها كانت حالكة السواد إلي درجة القتامة واليأس المحبط الذي تحيط نفسك به فأنت كما أردفت لم تسع لظلم أحد ولم تسع في الدنيا فسادا فقط أغرتك الدنيا بمباهجها وغشي عينيك بريقها ولعل السدة التي أنت فيها تمتحن ليست إلا تطهرا وهبك الله إياه قبل أن تغادر الدنيا رحمة و غفرانا فالله أكد هذا بقوله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم(47)( آل عمران) فلا تأس علي نفسك وقد تطهرت ألما ومرضا وتجلدها ندما وحسرة قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم(35)( الزمر). اجعل يا ولدي قلبك يطمع في كرم الله ورحمته ولا تملأه خوفا ورعبا فما أرحم لقاء الله وأكرمه.. يا ولدي انزع عنك درن المرض والعجز والخوف و تمني لقاء الله ولا تخش فقد قال عز وجل إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا(72)( الإنسان) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما(13)( الإنسان). أما أمك فلها الله يثلج صدرها و يهدئ من روعها في حكمته وقضائه وقدره ما لنا في ذلك حيلة غير الصبر واليقين بالله. لست أدري من أمرك شيئا أكثر مما قلت عن اقتراب مرحلة الرحيل ولكن يا ولدي في النهاية الأعمار بيد الله تعالي ولعل هناك من أمر الله شيئا يخفي علينا و يهبك من أسباب الشفاء ما يعجز عنه العلم فهو القادر سبحانه وتعالي علي كل شيء.