لا نزال مع تأصيل الأخلاق في مصر القديمة و قراءتنا المعاصرة لها آملين أن تحقق المرجو من استدعائها من ذاكرة التاريخ, إذ يتناول مقال اليوم بعضا من مفردات أخلاق القيادة و الحوار. فكم باتت مفاهيم القيادة لدينا مغلوطة علي مستوي طرفيها بعدما ترسخت معاني الإستبداد و الانقياد فيها, في حين أصبح الحوار لدينا إما حوارا للطرشان أو أحادي التوجه بعدما بلغ منتهاه بصيغة من ليس معي فهو ضدي. و لعل أهم ما كان يميز فنون القيادة و الحوار لدي أجدادنا هو مستوياتها, مما يجعل منطلقها فكريا قبل أن يكون سلوكيا. فعلي صعيد مستويات القيادة نجد الحكيم ناصحا بالقول: إذا كنت رئيسا فاجعل قراراتك تسير وفق رؤيتك و أن تحقق بها مصالح عليا.. و أنصت للشاكي في هدوء حتي يقول كل ما فكر فيه.. فالمفرح له أن يلمس اهتماما و عونا.. و العكس إذا وجد صدودا.. فالمؤكد أن كل ما يطلبه لن يتحقق, لذا فالاهتمام بسماعه تطييب لخاطره... و يتضح البعد الإنساني في هذا التوجه الذي أصبحنا نفتقده في الكثير من مناحينا الرسمية بعدما أصبحت المحسوبية و الرشوة وغيرها من الموبقات من مفردات العمل العام. لتتواري مفردات الكفاءة و الاستحقاق فيما يعرف بالأولوية لأبناء العاملين, أو لجان الاختيار الشكلية و غيرها مما لا يتسع المجال لذكره. لتفرز هذه الأساليب أنماطا قيادية تدين بالولاء لمن أتي بها لا لمنظومة العمل, و تتقدم المشهد علي مذبح الدفع الذاتي بعيدا عن الموهبة و الطموح المشروع. رغم أن الحكيم يؤكد ناصحا: اعمل علي أن يخشاك الناس لعلمك و رصانتك, و لا تأمر إلا كي تقود, فالشر في أن تكون عنيفا, فتواضع و تمالك نفسك عند الغضب الذي يمكن أن يعصف اندفاعه بالإنسان الطيب... أما عن فن الحوار فتتبدي الروعة في أسمي معانيها عندما يطرح الحكيم في نصحه لابنه ظاهريا ولمن يقرأ نصائحه الخالدة فعليا, إذ يعدد ثلاثة مستويات حوارية لا تخرج عنها المحادثة في أي زمن أو وسيلة. هذه المستويات تتمثل في طبيعة من تحاوره التي لن تخرج عن أنماط ثلاثة; إماأن يكون أكثر تمكنا حديثا و مكانة أو علي قدم المساواة من حيث القدرات الخاصة أو أخيرا ليس علي ذات المستوي من الكفاءة. فقد نصح الحكيم حيال الحالة الأولي بالقول: إخفض له جناحك دون أن تمكنه منك.. حتي تفند حديثه في الوقت المناسب ليظهر للجميع إدعاءه و جهله مقارنة بك. أما عن النمط الثاني تصرف بحيث تظهر تفوقك عليه, و لا تصمت إذا نطق( كفرا).. إذ سوف تجني من وراء ذلك سمعة طيبة بين الكبار, في حين جاءت النصيحة حيال النمط الثالث متواضع القدرات غاية في الرقي بالقول: لا تشدد عليه لضعفه, ولا تطرح عليه من الأسئلة ما يظهر قدراتك, إذ يكفيه أن يعاقب نفسه, و يحظي باستهجان الكبار. فمن المؤسف ان يهان الرجل لتدني فكره.. فكل إمريء يتصرف حسبما في قلبه..( أي بما كسب رهين..). إنها كلمات كلما تعمقنا في دلالاتها أدركنا لم أصبحت القيادة في عصرنا الحاضر مغنما لصاحبها و مغرما لمفتقدها, و لفهمنا مغزي التطاول اللفظي دون الإقناع العقلي الذي بات سمة النسق الحواري علي كل الأصعدة. حتي أصبحت الدعوة لقبول الآخر طموحا مجتمعيا, بعدما كانت من ثوابته الرئيسية. ( إشراقات السعدي129): يذكرني التكريم غير المستحق بنياشين مجاذيب الحسين.