إن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلي به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه, والشيء من معدنه لا يستغرب, وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة فقال: لقد خلقنا الإنسان في كبد, أي في مشقة وعناء, وقال: يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه, وبين جل جلاله أنها لا تدوم علي حال بل يوم لك ويوم عليك إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله, وتلك الأيام نداولها بين الناس. إن من لا يعرف هذه الحقيقة سيفاجأ بوقائع الأحداث تصب علي رأسه صبا فيظن أنه الوحيد من بين بني الإنسان الذي يصاب بذلك لشؤمه وسوء حظه, ولذلك يبادر بعضهم بالاجهاز علي نفسه بالانتحار, لأنه ما علم أن لكل فرحة ترحة وما كان ضحك إلا كان بعده بكاء, وما ملئ بيت حبرة إلا ملئ عبرة, وما عبت دار من السرور إلا عبت من الحزن, وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلي: إما بفوات محبوب أو حصول مكروه, وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل, إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا, وإن سرت يوما أساءت دهرا, وإن متعت قليلا, منعت طويلا... ب معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالي ومرجعك إليه: قال تعالي: وما بكم من نعمة فمن الله, وقد علمنا في كتاب ربنا أن نقول عند حلول المصائب: إنا لله وإنا إليه راجعون, يقول ابن القيم: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب, وأنفعه له في عاجلته وآجلته, فانها تتضمن أصلين عظيمين, إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلي عن مصيبته: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل, وقد جعل عند العبد عارية. وأيضا, فانه محفوف بعدمين, عدم قبله, وعدم بعده حتي يكون ملكه حقيقة, ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده, ولا يبقي عليه وجوده, فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي. والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلي الله مولاه الحق, ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره, ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة, بلا أهل ولا مال ولا عشيرة, ولكن بالحسنات والسيئات, فإذا كانت هذه بدايته ونهايته, فكيف يفرح بموجود ويأسي علي مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم علاج هذا الداء ولذلك يقال عن تعزية المصاب( إن لله ما أخذ وله ما أعطي, وكل شيء عنده بأجل مسمي), وقد أدركت أم سليم هذا المعني عندما توفي ابنها, فلما جاء أبوه( أبو طلحة) يسأل عنه قالت: قد هدأت نفسه, وأرجو أن يكون قد استراح( تعني الموت, وقد ظن أنها تريد النوم لمجيء العافية) وكانت قد هيأت نفسها لزوجها فتعرضت له فأصاب منها فلما أراد الخروج لصلاة الفجر, قالت له: يا أبا طلحة, أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية, فطلبوا عاريتهم, ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا, إن العاريبة مؤداة إلي أهلها فقالت: إن الله أعارنا فلانا ثم أخذه منه.