كلمة السلام لها أهميتها في قواميس اللغة العربية فهي بحروفها( السين واللام والميم) وما يضاف إليها من حروف أخري تدل علي معني السلامة من الآفات والشرور والأضرار. والناظر والقاريء لكتاب الله تعالي يجد هذه الكلمة وتصريفاتها واقعة في مواضع شتي منه بهذه الصور وتلك التصريفات, وتدل في كل موضع علي الأمان, والاطمئنان, والاستقرار, والهدوء, والسعادة الفردية والجماعية. والقرآن الكريم تتردد فيه هذه الكلمة سامية المعني لتصور العلاقات المتنوعة بين الانسان وخالقه, والإنسان وذويه, والإنسان وأصدقائه, والإنسان والمحيطين به, وقد وردت كلمة السلام في معظم سور القرآن الكريم لتعبر عن هذه العلاقات متعددة الجوانب. حول كلمة السلام في الإسلام يدور حوارنا مع العالم الجليل الدكتور عبد الغفار حامد هلال الاستاذ بجامعة الأزهر الإسلام رسالة الله تعالي إلي العالمين منذ خلق الدنيا وإلي أن يرث الأرض.. نريد تفصيلا وتأصيلا للمعني؟! حقا الإسلام هو رسالة الله تعالي إلي العالمين منذ خلق الدنيا وإلي أن يرث الأرض ومن عليها, والأحكام التي جاءت بها الكتب السماوية( التوراة والانجيل والقرآن الكريم) إنما جاءت دعوة إلهية إلي السلام, فهي التي وضعت حد العدالة واضحا بين الناس ليعيشوا في سلام مستظلين بظل هذا الهدي الإلهي, قال تعالي:( إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء...).( المائدة44). فالأنبياء مسلمون منذ خلق الله الأرض ينشرون السلام بين الناس, وقد جاء نبينا محمد صلي الله عليه وسلم ليتوج الرسالات السماوية بالسلام الشامل في العبادات والعبارات والمعاملات والسلوكيات الأخلاقية, وقد دعا الناس إلي الدخول في الإسلام منذ اللحظة الأولي لنشر الدعوة الإسلامية وتجلي ذلك فيما بعث به إلي أهله وذويه والمحيطين به والناس جميعا من كتب ورسائل تحمل كلمة الإسلام عنوان السلام والأمان, وقد كانت كتبه صلي الله عليه وسلم إلي الملوك والرؤساء عنوانا بارزا لذلك فيقول لهرقل قيصر الروم في كتابه:( من محمد بن عبد الله ورسوله إلي هرقل عظيم الروم.. أما بعد, السلام علي من اتبع الهدي, أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) وهكذا كانت عبارته لكسري وعظيم القبط والنجاشي وغيرهم ممن بلغتهم كتب الرسول الكريم لنشر الدعوة الإسلامية بأسلوب الطمأنينة والأمان, وقد كانت الدعوة إلي السلام هي وحي الله إليه كما قال تعالي:{ ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}( النحل125) أو كما قال عز وجل:{ ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلاقها إلا ذو حظ عظيم}( فصلت3533). وكيف يكون الإسلام أصلا للأمن والاستقرار وأمارة مودة فطرية؟! الدعوة الإسلامية جاءت بأسلوب الطمأنينة والأمان ودعوة سلام من وحي الله, لذا كانت هذه أمارة المودة الفطرية التي تنبع من الدين الإسلامي الحنيف الذي جاء بمبادئه الداعية إلي السلام, فالدخول في الإسلام يكون أصلا للأمن, والاستقرار, والمسالمة, وإنقاذ الإنسان من حيرته وشكوكه وقلقه ونزعات العنف التي بين جنبيه, فشريعة الله التي بعث بها محمد صلي الله عليه وسلم إكمال لشرائع الرسل من قبله فيها الأمن والطمأنينة من الآفات كلها. فالصلاة أمن للنفس وراجة لها, والزكاة أمن للأموال وزيادة فيها, والصوم أمن للروح وطمأنينة وصقل لها لتجابه المكاره وتعين علي تحملها. والحج أمن للمؤمن, وإحاطة له بالعناية والرعاية في هذا الحرم الآمن, قال تعالي:{ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم}( العنكبوت67), والمعاملات بمبادئها الإسلامية تعين علي تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع المتعاون والمتماسك, والسلوكيات والأخلاق أمن وسلام للمجتمع من الآفات والأرزاء. هل هناك من غايات وراء مجيء الإسلام بمباديء السلام.. نود تفصيلا؟! الإسلام جاء بمبادئ السلام, لأنه اتجاه إلي الذي سمي نفسه السلام وسمي دينه الإسلام, لأنه إخلاص للمولي سبحانه, واتجاه إليه, وعلاقة آمنة في رحابه, والقرآن الكريم جاء محققا لهذه الغايات قال تعالي:{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلي النور بإذنه ويهديهم إلي صراط مستقيم}( المائدة16,15) فالقرآن يكشف ظلمات الشرك والشك, ويوضح للناس ما كان خافيا عنهم من الحق, واتباع رضوانه يؤدي بالإنسان إلي الطريق الأمثل: طريق السلامة والنجاة من عذاب الله. والمسلمون مأمورون بإظهار السلام للآخرين, فالمسلم داعية للخير, لأنه خاضع لأوامر ربه, معرض عن تيارات الفتن والأهواء كما قال تعالي:{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين}( الأنعام71), فهي دعوة لوحدة المجتمع الإنساني في طريق السلام, قال تعالي:{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا}( النساء125) يخلص نفسه لله, ويجعلها سالمة لله, لا تعرف ربا سواه, ويعمل الحسنات ويترك السيئات, ليعيش مع الناس في سلام ووئام. والمولي عز وجل يطلب من رسوله الأمين أن يعلن للناس جميعا أنه رسول السلام قال تعالي:{ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين}( الأنعام15). إذا كانت العلاقة بين الإنسان وخالقه تقوم علي هذا النحو الواضح من مبادئ السلام في العبادات والأخلاقيات, فقد نظم الإسلام العلاقة بين الإنسام وذويه وجيرانه علي أساس السلام والمودة, فالعلاقات تقوم علي حسن التعامل, والترابط الوثيق بين الأفراد والمجتمعات, لتحيا البشرية حياة الأخوة العامة التي يوقر فيها الناس بعضهم بعضا, فيشعرون بأنهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي, والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وقد أسس الإسلام هذه العلاقات علي التعارف والتواد, لأن الناس أسرة واحدة مهما اختلفت أجناسهم أو أوطانهم, قال تعالي:{ ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}( الحجرات13) كما جعل الإسلام الاحترام المتبادل مقوما مهما للترابط بين الناس, لا فضل بين ذي حسب ونسب أو غيره, ولا بين غني وفقير, ولا بين حاكم ومحكوم, كل علي قدم المساواة يتعامل ويتفاعل مع الآخرين, وقد حث المسلمين علي إلقاء التحية وإفشاء السلام بين الناس, تحية التقدير والاحترام:( السلام عليكم ورحمة الله) فمجتمع الإسلام لا يعرف الانطوائية أو العزلة الفردية أو الجماعية, ويدعو إلي الوحدة الشاملة بين المسلمين عامتهم وخاصتهم فيقرر الإسلام أن يحيي المسلم أخاه بقوله:( السلام عليكم ورحمة الله) إذا لقيه في مكان ما أو محفل ما, أو في الطريق العام, لعل ذلك يفتح باب المخالطة والعشرة ومدارسة المشكلات التي تعوق مسيرة الحياة عند كل منهما ليتحقق الأمن والسلام, وعلي كل من يقابل أخاه أن يجيبه ويبادر قبل أخيه بإلقاء السلام, وهنا يتضح أنه فرض علي السامع أن يرد التحية ويجيب عليها كما قال تعالي:{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}( النساء86). وهل يمتد السلام إلي ما هو أبعد من ذلك؟! نعم يمتد الإسلام إلي أبعد من ذلك, فيتحقق السلام لغير الملتقين, كأن يحمل مسلم السلام من صديق إلي صديق ليس في المجلس أو المكان الذي يمر فيه, فيذكره بالأمان والسلام. وتمتد التحية والتقدير من المجتمع العام إلي المجتمع الخاص في الأسرة, لتترابط فيما بينها وتسودها الألفة والوئام والتعاون لحل مشكلات الحياة, فالرجل المسلم يسلم علي أهله وزوجته وولده, وهم يفعلون ذلك معه, فكل ذلك ينشر السلم الحقيقي داخل الأسرة التي تعد خلية من خلايا المجتمع الكبير. وقد وضع الإسلام بعض القواعد للتحية مبينا فضل من يبادر بالسلام علي الآخر وفق التقاليد الإسلامية التي تجب مراعاتها, فالراكب يسلم علي الماشي, والقائم علي القاعد, والصغير علي الكبير, والأقل علي الأكثر, وكلها قواعد تجعل الوقار أمرا سائدا مرعيا. هل الاستئذان يندرج تحت معني السلام أم لا؟! لقد جعل الإسلام مبدأ الاستئذان من الأخلاق السلوكية النبيلة حتي لا يطلع أحد علي عورات المسلمين ولا ينتهك الحرمات, فوضع سياجا وحدودا لدخول البيوت واحترام الأعراض, فلا يهيم أحد علي بيت صاحبه, ولا يدخله بغير إذنه, ولا أن يلغي له أمنه وسلامه, قال تعالي:{ ياأيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتي يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكي لكم والله بما تعملون عليم}( النور27), فالذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا. بل بلغ الأمر في اهتمام الإسلام بالاذن أن قرر استئذان الرجل علي أهل بيته, فقد روي أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم: أأستأذن أمي قال: نعم. قال: إنها ليس لها خادم غيري! أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانه قال الرجل: لا قال: فاستأذن. وهل الإسلام كما يعني بأمن المسلمين يعني بأمن العالم وسلامته؟! الإسلام لا يعادي أحدا وإنما يحب التواد ونشر الصفاء, غير أنه يحافظ علي أهله أن يصيبهم مكروه أو يحل بهم ضيم, وهو المنقذ للبشرية من ضلالها والذي يصل بها إلي الأمان بالسلام, فإذا أحس أن الدعوة الإسلامية مهددة بالعدوان عليها لجأ إلي نصح الأعداء ألا يقفوا في طريقه, لأنه يحمي دعوته وأهله, فإذا رأي أن الخصوم مصممون علي النيل منه ومن أهله طلب من أتباعه أن يهبوا للدفاع عنه, قال تعالي:{ إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علي نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا..}( الحج40,39), ويقول تعالي:{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}( البقرة190) بهذا يضع المبادئ ذات الحدود الواضحة التي تؤمن من ليس من أهل القتال كالشيوخ والنساء والأطفال والرهبان. وهو يستعمل الدفاع عن الدعوة وعن النفس في حدود المطلوب فقط لا يزيد علي ذلك شيئا, إذ إن دفاعه ليرد الباغي عن عدوانه, فإذا وجد أن الباغي وقف عند حده لم يزد علي ذلك بل يحقق السلم المطلوب للأعداء والأصدقاء, قال تعالي:{ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}( النساء90) فإذا لاحت بادرة في الأفق تشير إلي رغبة الطرف المحارب في السلام طلب من المسلمين الاستجابة الفورية لداعي اللسام دون تأخير, إذ إن الحرب ليست هدفا في ذاتها للإسلام, بل يلجأ إليها في أقصي الظروف, فالجراح لا يستعمل المبضع للجراحة إلا إذا فشلت جميع وسائل العلاج الأخري. فإذا عاد الطرف الآخر إلي رشده فعلي المسلمين الاستجابة السريعة, قال تعالي:{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله}( الانفال61). وأهل الإسلام دعاة سلام لا دعاة حروب, فمهما وجدوا من الآخرين حيفا أو تلويحا بالعدوان واجهوا ذلك بالصبر والمتاركة والسكينة والوقار دون إثارة للشغب أو العنف, قال تعالي:{ وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.(الفرقان63) فالمؤمنون هينون لينون يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا أشرين ولا بطرين, وإذا عاسر غيرهم ياسروا, ويخاطبون غيرهم بالسلام دون استجابة لعوامل الشر المذكورة في طباع الآخرين, فالمؤمنون حكماء في كلامهم وتصرفاتهم, لا يقابلون الجهل والسفه بمثلهما بل يقابلونهما بالحكمة وفصل الخطاب والإغضاء عن السفهاء, وهم هؤلاء العقلاء الذين لا يستفزهم الباطل مهما علا صوته, وهم جادون في توفير العدل والعيش في حمايته غير منصتين إلي أصوات الباطل ومن يحاورون ويداورون, قال تعالي:{ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}( القصص55), فلا يخالطونهم ولا يصاحبونهم, ويسلمون عليهم تسليم توديع ومتاركة لعلهم يثوبون إلي رشدهم. نسمع كثيرا عن السلام العالمي.. ما موقف الإسلام منه؟! الإسلام يدعو إلي السلام العالمي, ليكون أساسا لإسعاد البشرية, وطرحه علي الساحة الإنسانية منذ تكوينها, فقد أنجي آباء البشرية الأولين مع نوح حين عم الطوفان الأرض فأعطي وأثمر البذرة الأولي للإنسانية بأن أنقذهم بسلام لتستمر قافلة الحياة في المسير, ووعد هذه الذرية بالسلام إذا سارت علي درب العبادة لمولاها وخالقها ورازقها, ومن ضل هذا الطريق سيفقد السلام والأمن.