مراتب عليا من الحدس السياسي ونبوءات استراتيجية مرعبة تلك التي انطلقت من سرديات تقرير ستاتفور الصادر عن أحد أهم مراكز الفكر السياسي الأمريكي, ولعلها المرة الأولي التي تتحرك خلالها رؤي هذا التقرير نحو مستقبليات السياسة الدولية ومعتركاتها بكل ما إشتملت عليه من تغيرات وتحولات وأبعاد وزوايا وحاجات ومصالح فبعد أن اعتمدت من قبل- بنيته وآلياته علي التحليلات المعمقة للوضعية السياسية والاستراتيجية للظواهر والأحداث والنزاعات والحروب, فها هو يتجدد ويتشعب في محاولة علمية للامساك بحقائق قد تتجسد في الواقع المأمول وتكون ذات فاعليات خطرة تغير من طبيعة المشهد الدولي. ولعل استقصاء الدلالة من ذلك هي الوقفة المتأنية لتشريح معني الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وما يمكن أن يؤول إليه استشرافا لذلك الواقع الآخر الذي يسير العالم نحوه بسرعة صاروخية. وفي اطار التغيرات الجذرية المنتظرة يطرح التقرير فكرة التزحزح الامبراطوري وخفوت الصوت الأمريكي وانزوائه وإنكفائه علي تطبيق شعار أمريكا أولا كخيار استراتيجي لاعلاء مصالحها علي أي شيء آخر وتفريطا نسبيا في استمرارية الأحادية القطبية التي عرضها للاستدانة المتفاقمة وطاقات الكراهية التي يصعب تطويقها وهو ما يهيئ بالضرورة أن تتبوأ روسيا مكانها وتمارس أدوارا حية فاعلة علي الساحة الدولية. ويتجه التقرير نحو القارة الأوروبية وما تعج به من مشكلات يتصدرها تقاعس الحليف الاستراتيجي عن دعم حلف الناتو والاخلال بالاتفاقيات التجارية ودور ذلك في استفحال الأزمات الاقتصادية اضافة الي بروز الفراغ الأمني والسطوة الروسية علي معطيات القوة ذلك بجانب تحلل الاتحاد الأوروبي. وعلي الصعيد الشرق أوسطي يؤكد التقرير احتدام الصراع الديني بين كل من تركيا حاملة لواء التيار السني وايران المنتصرة دوما للتيار الشيعي فضلا عن التنازع الشرس علي السيادة في الشرق الأوسط. أما مكمن الخطر في تقرير ستاتفور فيتمثل في الاشارة القوية إلي ان تكثيف الحملات العسكرية ضد التنظيم الداعشي وبؤره التي استوطنها سيقوض ذلك التنظيم عسكريا وسياسيا لكنه سيظل كقوة ارهابية معززة بذلك التطاحن الطائفي في كل من سوريا والعراق, وفي ذات الان يظل قوة مهددة للدول الأوروبية ذلك عند عودة رموزه من الدول الغربية الي بلادهم مسكونين بهواجس الأيديولوجيات الرجعية, من ذلك فان هشاشة التنظيم الداعشي سوف تمثل عملية احياء وبعث جديد لتنظيم القاعدة ليكون البديل الأمثل إزاء القيام بعمليات ارهابية شرق أوسطية لا سيما وقد انتشرت خلاياه في العديد من الدول تحت مسميات مختلفة, ويظل الشرق الأوسط مطوقا بتلك التنظيمات الغربية المتخذة كذرائع للمخطط الغربي في البؤرة الملتهبة من العالم. وعلي مستوي آخر يناقش التقرير مدي استثمار الدولة العبرية للمناخ السياسي الدولي والظرف الاستراتيجي المواتي لمزيد من التوحش, إذ أن سيطرة الجمهوريين علي مقاليد السلطة الأمريكية سيحقق لها الدافعية المطلقة نحو إنشاء المزيد من المستوطنات والتوغل في الأراضي الفلسطينية وممارسة السادية الدموية مع الفلسطينيين ومحاولة التوجه الحميم مع بعض القوي الاقليمية, وكذلك يخوض التقرير في تفصيلات المعضلة الأسيوية القائمة علي الندية الجبارة بين اليابان والتي ستبدأ تجربة تحجيم الصين عن طريق الاندماج مع الدب الروسي وبين العملاق الصيني الذي بسط نفوذه علي الكتلة الأسيوية وغيرها باعتباره ممثلا للقاطرة الاقتصادية من ثم فهو المرشح لممارسة تنويعات من الضغوط تحتفظ له بالسيادة والعصمة السياسية علي كافة النمور الأخري. إن تقرير ستاتفور قد قدم قراءة مستقبلية دقيقة لمحاور السياسة الدولية وركائزها معتمدا أسسا منطقية جعلته لا يحيد عن التوقع الموضوعي لما يمكن أن تكون بالفعل هي حقائق المستقبل القريب, لكن إذا كانت تشابكات الوضع السياسي الدولي المعاصر قد مثلت تأزمات متلاحقة للعديد من الأطراف, فكيف إذا إنتقلت إلي طور آخر يحال فيه ضبط قدرات التحكم لاسيما إذا تشدق كل طرف برؤيته وأفكاره وقوته وصار المحيط الكوني جحيما مستعرا يستدعي الفرار, عندئذ تكون فضيلة تقرير ستاتفور هي تأكيد ذلك المعني الحيوي.... إنه في لحظات الأزمات يكون الخيال وحده أهم من المعرفة.