مما لا شك فيه أن عملية تحرير المرأة المصرية من القيود الاجتماعية والثقافية التي فرضت عليها منذ عشرات السنين قد أنجزت مهامها إلي حد بعيد وخصوصا في العقود الأخيرة وتحرير المرأة المصرية. والتي بدأت الدعوة لها علي إيدي رائدات مثل هدي شعراوي أخذت نسق طريقها في البداية بصعوبة بالغة نظرا لتراكم المعتقدات الرجعية التي كانت تهدف إلي تكبيل المرأة وحبسها في البيت ومنعها من مزاولة عديد من المهن, علي أساس أن مهنتها الأساسية هي إنجاب وتربية الأطفال ولا شك أن المرأة المصرية قطعت في سبيل التحرر من القيود الرجعية أشواطا متعددة والدليل علي ذلك أن مصر من البلاد القليلة التي أعطت المرأة منذ سنوات بعيدة الحق في الأجر المساوي لأجر الرجل بدون أي تمييز كما أن القانون المصري يكفل للمرأة العاملة عديدا من الحقوق في حالة الإنجاب وكذلك في حالة سفر الزوج للعمل في الخارج ولم شمل الأسرة في ضوء كل هذه التطورات الإيجابية في عملية تحرير المرأة رأينا السيدات المصريات تشغلن وبكفاءة تامة عديدا من المهن والوظائف والتي كانت من قبل مقصورة علي الرجال. أصبحت معتادة مشاهدة السيدات من بين أساتذة الجامعات في كل فروع العلم يلقين المحاضرات وتتخرج علي أيديهن أجيال متعددة يحدث ذلك في جميع الكليات الجامعية بما في ذلك كليات الحقوق. ولذلك كان يبدو غريبا غاية الغرابة بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها المرأة المصرية أن تجمع الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة لكي تأخذ قرارا بمنع تعيين المرأة في وظائف القضاء بمجلس الدولة أو بحسب التعبير الذي استخدم في الوظائف الفنية بالمجلس والتي تبدأ بوظيفة مندوب مساعد ثم مندوب إلي أن يصبح مستشارا. ومعني ذلك بمفهوم المخالفة انه لا مانع أن تعين الفتيات والسيدات في وظائف إدارية معاونة ولكن يمتنع عليهن العمل كقاضيات! بعض هؤلاء المستشارين علي سبيل القطع تلقوا العلم القانوني في كليات الحقوق علي أساتذة في القانون من بينهم استاذات يقمن بالتدريس علي أرفع مستوي, ويحضر عديد من الرجال رسائلهم في الماجستير والدكتوراه تحت إشرافهن. وهكذا حين يأتي مجموعة من مستشاري محكمة النقض ممن أدلوا بدلوهم في هذا القرار المتعسف زعموا بأن هذا القرار مشكلة داخلية تخص مجلس الدولة الذي تحكمه قرارات المجلس الخاص به, وأنه لا معقب علي هذا المجلس فيما يتخذه من قرارات؟ وكأن هذا المجلس من حقه هكذا اتخاذ أي قرارات حتي ولو كانت مخالفة للدستور الذي ينص علي المساواة الكاملة بين الرجال والنساء. وأحد هؤلاء ممن وافقوا علي قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة وهومستشار بمحكمة النقض ظل يرواغ في حوار مع إحدي القنوات الفضائية حتي لا يعترف بأن أداء القاضيات في المحاكم العادية لا تشوبه أي شائبة. فما الفرق إذن بين قاضية في المحاكم العادية وقاضية في مجلس الدولة. وبدلا من مناقشة صميم الموضوع تطرق المستشار الفاضل إلي مسائل ثانوية مثل صعوبة أن تعمل السيدات لو عين قاضيات في المحافظات أو احتمال أن يرفضن النقل إلي الأقاليم بعيدا عن القاهرة أو الإسكندرية. والواقع أن قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة لا يمكن فصله عن التيار المحافظ في المجتمع الذي لايرحب بعمل المرأة علي وجه الإطلاق. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة دعوات رجعية تدعو لإبقاء المرأة حبيسة داخل جدران البيت لتتفرغ لأداء وظيفتها التقليدية وهي إنجاب وتربية الأطفال. بل إن بعض هذه الأصوات الرجعية دعا إلي منعها من العمل لأنها تزاحم الرجل في سوق العمل في وقت تشتد فيه البطالة! وهكذا يمكن القول إننا نحتاج في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل تطور المجتمع المصري, والتي ينبغي فيها أن تركز علي تدريب القوي البشرية نساء ورجالا وإعدادها للإسهام في كل برامج التنمية أن نواجه بشجاعة هذه الرجعية الثقافية التي عادت مرة أخري بعد كل المكاسب التي حصلت عليها المرأة المصرية في السنوات الأخيرة لكي تعوق حركتها. يحدث ذلك بعد أن صدر تشريع ينص علي تخصيص كوتة للمرأة في مقاعد مجلس الشعب, مما يعد في حد ذاته خطوة تقدمية في سبيل تمثيل نصف المجتمع المصري في المجالس النيابية. وهو تشريع تقصد منه في الواقع المواجهة الجسورة ضد القيم الثقافية المتخلفة في مجتمع ذكوري يرفض أن يعطي المرأة حقوقها المشروعة. ولاشك أننا نحتاج إلي تطبيق منهجية التحليل الثقافي لكي نفكك البنية الفكرية المغلقة التي تتبناها جماعات إسلامية متشددة هي التي تقف وراء الدعوات الرجعية لاعتقال حركة المرأة وتقييدها. ولدينا في مجال التحليل الثقافي عدة مداخل. وأولها ما يطلق عليه المدخل الذاتي, وهو يركز علي المعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التي يعتنقها أفراد المجتمع. والنظرة للثقافة هنا تقوم علي أساس أنها صياغات ذهنية يصنعها أو يتبناها الأفراد المختلفون, وهي تمثل الحالات الذاتية للفرد, مثل رؤيته للعالم أو مشاعر القلق التي قد تصيبه, أو حالات الاغتراب التي قد يمر بها. ومشكلة المعني محورية في هذا المدخل. فالثقافة تتكون من معان, وهي تمثل تأويل الفرد للواقع, وهي تعطي الفرد المعني الذي يضمن له الاتساق في إدراك الواقع وفهمه. وينبغي أن نقف طويلا أمام هذا المدخل الذاتي. فمما لا شك أن المتعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التي يعتنقها أفراد المجتمع تؤثر بشكل واضح علي سلوكهم الاجتماعي. ولذلك لابد من التحليل النقدي لهذه المعتقدات والاتجاهات والقيم, لكي نحدد مصدرها, ومن هم الذين يقفون وراء صياغتها, ووسائل الدفاع عن هذه القيم وإذاعة معاييرها بين مختلف طبقات المجتمع. ولو فعلنا ذلك وبكل موضوعية لوجدنا أن كثيرا من القيم التي تدعو إلي تكبيل حركة المرأة مصدرها تأويلات دينية غير صحيحة لبعض الآيات القرآنية والأحاديث. مع أن الإسلام كرم المرأة وأعطاها كل الحقوق. غير أن بعض الجماعات الدينية المتشددة التي انتشرت آراؤها في السنوات الأخيرة, وخصوصا في سياق موجات التدين الشكلي التي يمر بها المجتمع المصري في الوقت الراهن حريصة كل الحرص علي نشر كتب تدعو إلي تكبيل حركة المرأة, ومنعها من مزاولة عديد من الوظائف ومن بينها بالطبع وظيفة القضاء. وذلك بالرغم من الفتاوي التي أصدرتها دار الفتوي في هذا الصدد. واستشراف هذه القيم والاتجاهات الرجعية يدعونا لضرورة صياغة سياسة ثقافية متكاملة لمواجهتها. وهذه المواجهة ينبغي أن تبدأ من مرحلة الطفولة المبكرة بحيث يعلم النشء ألا تفرقة بين الرجال والنساء, وتستمر في كل المراحل التعليمية. والإعلام هنا له دور مهم في إشاعة القيم الاجتماعية التقدمية والعصرية, وفي محاربة القيم الرجعية والاتجاهات الفكرية المنغلقة. وبالإضافة إلي المدخل الذاتي في التحليل الثقافي هناك المدخل البنيوي ويركز هذا المدخل علي الأنماط والعلاقات بين عناصر الثقافة ذاتها. ومهمته هي التعرف علي العلاقات المنتظمة والقواعد التي تسبغ التجانس علي الثقافة وتسمها بسمة خاصة. ولو ركزنا علي العلاقات والقواعد التي تقوم عليها الثقافة العربية والإسلامية علي سبيل المثال فقد تهتم بفكرة الحق والباطل أي ما تعتبره الثقافة حقا وما تعتبره باطلا وهناك في هذا المجال تأويلات شتي تختلف بحسب الجماعات الاجتماعية المتعددة في المجتمع وكذلك بفكرة الحلال والحرام والملوث والطاهر, ونوعية الخطابات المتعلقة بكل قيمة من هذه القيم, وتغير معاني هذه القيم عبر الزمن. وهذه مسألة بالغة الأهمية لأن القيم الاجتماعية يصيبها التغير, بمعني أن بعض القيم الاجتماعية تهبط مكانتها. وبعضها تصعد مكانتها والمسألة تتعلق في الواقع بالسياق التاريخي علي المستوي العالمي والمحلي علي السواء. وهذا موضوع يستحق أن نعود لنتتبعه لأهميته الكبري في شرح وتفسير صعود وسقوط الظواهر الاجتماعية ونشأة وزوال القيم الاجتماعية. بعض هؤلاء المستشارين علي سبيل القطع تلقوا العلم القانوني في كليات الحقوق علي أساتذة في القانون من بينهم استاذات يقمن بالتدريس علي أرفع مستوي, ويحضر عديد من الرجال رسائلهم في الماجستير والدكتوراه تحت إشرافهن. ينبغي أن نقف طويلا أمام هذا المدخل الذاتي. فمما لا شك أن المتعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التي يعتنقها أفراد المجتمع تؤثر بشكل واضح علي سلوكهم الاجتماعي. ولذلك لابد من التحليل النقدي لهذه المعتقدات والاتجاهات والقيم, لكي نحدد مصدرها