في المقال السابق تحدثت عن عدم جدوي تجديد الخطاب الديني طالما لا يتفق مع أفعالنا وسلوكياتنا, وبعد ما وردني من آراء متباينة, أردت طرح سؤال آخر: إذا كان الكلام هو ما ينطقه اللسان ليعبر عن تفكير صاحبه, أليس من الأولي إذن أن نبحث عن تجديد العقل نفسه الذي يفكر ويملي علي اللسان ما يقوله؟! لقد حث النص القرآني في كثير من مواضعه علي التفكير والتفكر والتدبر والتعقل والتأمل والنظر في كل ما يحيط بالإنسان من مظاهر وأحوال طبيعية وقصص الأولين, فقال الله تعالي إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب, فلينظر الإنسان إلي طعامهب اأفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت* وإلي السماء كيف رفعت* وإلي الجبال كيف نصبت* وإلي الأرض كيف سطحتب بل إن النص حث علي التدبر في النفس والجسم افلينظر الإنسان مم خلقب.. اوفي أنفسكم أفلا تبصرونب, وكم أقسم الله سبحانه وتعالي بالقلم وبالنجوم ومواقعها والسماء ذات البروج وبالبحاروالجبال والتين والزيتون, وفي حديث روي عن أم الدرداء, عن أبي الدرداء قال: اتفكر ساعة خير من قيام ليلة, مما يعني أن التفكر والتدبر والتعقل والتأمل فريضة علي كل مسلم ليستخلص من تفكيره ما يرتاح له قلبه وفطرته السليمة ليعمل بها بغض النظر عن اجتهادات الأئمة والفقهاء, وقد روي الإمام أحمد عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال له:(... يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك ثلاث مرات, البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك). والأمر يفتح باب الاجتهاد لكل مسلم بالغ عاقل لاستخلاص العبر والعظات وتأمل قوانين الكون والعلاقات بين عناصره, ليتدبر في خلق الله ويكتشف أسرارا لا يمنحها الله إلا لساع مجتهد وباحث مفكر ومتسائل يبحث في الكون عن إجابات لأسئلته. ولنا في قصة تدبر سيدنا إبراهيم عبرة: افلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين,فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالينفلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركونإني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. فقد اهتدي بعد سلسلة من التفكير المنطقي للعزوف عن عبادة مظاهر الكون حوله, وأدرك بعقله وقلبه أن هناك من خلق كل هذا, وفي مجادلته المنطقية مع الملك النمرود حين أدعي الألوهية وبأنه يحيي ويميت, فطلب منه سيدنا إبراهيم أن يأتي بالشمس من المغرب وهو ما يعد حوارا منطقيا وتعجيزيا لقدرة مخلوق وليس لقدرة خالق. فقد أدرك الفلاسفة القدماء أن العقل البشري قادر علي ممارسة الخداع وارتكاب الأخطاء كما فعل السوفسطائيون في الحضارة اليونانية القديمة, فكان لابد من وضع قوانين منطقية للعقل حتي لا ينحرف عن مساره السليم, وقد برع العلماء والفلاسفة المسلمون في المنطق وترجموا كتب الأوائل وتفوقوا فيه حتي صنعوا حضارة علمية استلهم منها الغرب حضارته التي لا تزال قائمة حتي الآن, إلا أن العقل العربي انقطع عن هذا الاستمرار في التطور والأخذ بالأسباب وقوانين المنطق, فغرق في شتي أخطاء التفكير المنطقي, ومارس الجدل والخداع بما فيه خداع النفس والغير, وسقط في أخطاء التفكير والحكم الانفعالي وتعميم الأحكام والتعصب للرأي, فكان طبيعيا أن نصل لما نحن عليه الآن فأصبح الدين نقلا بدون عقل ومظهرا بلا جوهر, فالحاصل الآن نتيجة طبيعية لتوقف العقل العربي عن العمل ففسدت الآلة والآلية وبالتالي خرج الخطاب الديني ومثله الاجتماعي والثقافي مصحوبا بخلل كبير, ولن يصلح هذا الخلل إلا بإصلاح الآلة التي تنتجه والالتزام بإرشادات التشغيل السليمة, وقتها فقط سيكون المنتج خاليا من كل العيوب وسيكون منتجا أصيلا وأصليا لا يحتاج إلي تجديد أو تصليح إلا من باب التطوير والاجتهاد.