أنا سيدة أربعينية من أسرة ميسورة جاء عائلها من أعماق الصعيد واستوطن العاصمة وتزوج والدتي التي تشاركه الأصول فأنجباني بعد أخ أكبر وأختين, منذ طفولتي لم أشعر بحنان أمي التي كانت تفضل أخي الأكبر وتخصه باهتمامها وحنانها حتي نشأ مدللا قاسيا, لا أذكر كيف تعاملت أختاي الكبريان مع التفرقة الواضحة في المعاملة في بيتنا, ولا أذكر دورا لوالدي الذي توفي مبكرا وأنا علي أعتاب الصبا.. كل ما أذكره هو محاولاتي للحصول علي اهتمام أمي, ولم يشفع لي تفوقي في دراستي والتحاقي بكلية مرموقة, ولم يشفع لي أن شققت طريقي في الحياة العملية واعتمادي علي نفسي ماديا رغم يسر حالنا. أذكر يا سيدتي وبشدة أوقات مرضي التي لم تكلف أمي نفسها وقتها عناء جس حرارتي المرتفعة بينما تهرع إلي أخي لو أصابه السعال, أذكر خلافاتي معه حين كنت أرفض تنفيذ أمر له فتنهال أمي علي ضربا, أذكر نظراتها الكارهة لي حينما كانت تسمعني أشكوه لوالدي أو لإخوتي, وأذكر طبعا حين كان يرفض خطابي دون سبب وكانت أمي تسانده وكيف كانا يشكلان فريقا لرفض كل من تسول له نفسه التقدم لخطبتي حتي بلغت الأربعين بتجربة خطبة وحيدة فاشلة مارسا معا خلالها كل أنواع التطفيش حتي فر العريس هاربا في أواخر أيامها أصيبت أمي بأمراض أقعدتها الفراش, فلم أستطع التخلي عن مسئوليتي بعد زواج أختي وزواج أخي للمرة الثانية واستقلاله ببيت بعيد عنا, فكنت أحصل علي إجازات طويلة لرعايتها حتي تم طردي من عملي ولازمتها عدة سنوات حتي ماتت, فهل تصدقين يا سيدتي أنها حتي في سنوات مرضها التي لم تجد بجوارها سواي لم تمنحني حضنا ولا اهتماما ولا حنانا! ماتت أمي وتركت لي شبحها يطاردني في صحوي وفي منامي, فرغم مرور عدة سنوات علي موتها مازلت أراني في أحلامي تارة أتسول حنانها وتارة أصرخ فيها غاضبة ومتسائلة لماذا حرمتني من حنانها, إنني لا أستطيع أن أغفر لها ما فعلته بي مما يعوقني حتي الآن عن التواصل مع الحياة والناس الذين أجدني في كل علاقاتي أتسول اهتمامهم وحنانهم.. فهل أنا مريضة ؟ وهل هناك أمل في علاجي ؟ عزيزتي المحرومة من الحضن لقد لمستني قصتك بشدة وأرسلتني في رحلة من التأمل في حالك وقد بلغتي الأربعين وأنتي جائعة لصدر أم حنون لم تجدينها في أمك البيولوجية, وقد أنصت بعناية لأصولك الصعيدية; حيث تشتهر المرأة بصلابتها وعنفوانها وقدرتها علي قيادة الأسرة( حتي سميت بالكبيرة) في الأسر التي مازالت تلتزم بتلك التقاليد, وغضبت معك بشدة من التحيز العنصري ضدك لكونك أنثي ومنح كل الامتيازات من الدعم والحب والحنان لأخيكي لمجرد أنه ذكر النوع ويمكنني أن أمضي ما تبقي من العمر أتجرع مرارة الحرمان والإحساس بالظلم والقهر وصعبانية النفس وهي عزيزة, وأبتلع نيران الغيظ والغضب, لكن لا طائل من وراء ذلك غير تركك وحيدة, جائعة للاهتمام والمشاعر بأي شكل وعرضة لكثير من الاضطرابات النفسجسمانية. عزيزتي الصعيدية الحساسة والقوية يمكنني أن أحدثك عن أهمية دور أمك في تكوينك النفسي والبيولوجي طبقا لنظريات التحليل النفسي وأبين لك أثر حرمانك من أم جيدة بالقدر الكافي علي أساليبك غير المرضية في الارتباط وشعبطتك في أي لمحة اهتمام تروي ظمأ الحرمان! لكن ما يقلقني أكثر من تعب فقدان الأم الذي تصفينه سواء كانت حية أو ميتة ليس قلة الحنان فقط بل ما حدث لك من اختزالك وعدم تقدير أي من فضائلك بشكل يقلل من شأنك رغم كل محاولاتك, في الحقيقة أن تبعات هذا الإهمال والضغط النفسي والعصبي والعذاب المبكر عادة ما تكون أسوأ كلما ازدادت حساسيتك وقلت مرونتك النفسية للتكيف مع الوضع وحماية ذاتك من عمليات الهدم المستمرة, وأكثر مخاوفي أن يكون معول الهدم لايزال مستمرا بداخلك, و توضيحا لما أرمي إليه, أنظري كيف حال أخواتك وكيف تخطين المحنة والظروف وهل مازلن يتجرعن مرارة الحرمان أم يذكرن حسنات أمهن بعد أن رحلت عن دنياهن وإن لم تغب عن واقعهن أيا كان, أخشي يا سيدتي أن الأم التي تحلمين بها تقبع خائفة من كرباج شبح الأم الهادمة الناقدة والمعذبة التي تعانين معها ومنها كل يوم ولم يسعفك جهازك العصبي لنسيان الآلام التي سببتها لك والجرائم التي اقترفتها في حقك حتي صار الشبح جزءا لا يتجزأ منك! أنت تمتلكين أما حنونا بداخلك اهتمت بامك البيولوجية علي الرغم مما تحملينه من مشاعر صعبة ولوم تجاهها, فأين ذهبت تلك الأم الآن ؟ أم أنك اعتدتي هذا الدور وهذا العذاب ؟ أغلب الظن أن رحلتك لتلمس الحضن ومصالحة الذات وعرة الطرق لذا أنصحك بالاستعانة بطبيب نفسي والانضمام لجلسات العلاج مع آخرين( العلاج جمعي) فهذا سيعينك علي عذابك وربما يفتح لك الأبواب لعلاقات تثريك وتروي ظمأك لحضن حقيقي والأهم أن توقف معول هدم الذات الذي يعمل بداخلك حتي الآن, وتذكري أنك تملكين الاختيار مثلما تملكين القدرات التي استطعتي بها تحقيق الإنجازات لنفسك رغم كل الظروف, فهل لك بنفسك الآن ؟.