(من حكمدار بوليس العاصمة إلي المواطن أحمد إبراهيم..القاطن بدير النحاس:لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه,الدواء فيه سم قاتل,...).. كان هذا الإنذار الأشهر في تاريخ السينما المصرية,وربما أيضا الحدث الأقوي في ذاكرة الإنسانية الحقيقية,التي جسدها المخرج المبدع كمال الشيخ في فيلمه العبقري حياة أو موت عام1954, الذي رسم لوحة إنسانية متكاملة الأركان لمجتمع يعي قيمة الإنسان ويقدر المسئولية. ليحتم علينا إعادة النظر في مكونات مجتمعنا,التي تشوهت ملامحها,وبدلت سيناريوهاته إلي حلبات من( الفساد والفوضي) تفرض حضورها علي واقعنا,وتتسع لتسلب كل ما تبقي من معاني الإنسانية,وتوضح أن الضمير المجتمعي والإنساني بات يترنح ما بين غائب أو مستتر! ثلاثة وستون عاما مضت من عمر المجتمع المصري بعد هذا التحذير,الذي ترك بصمته الخالدة,في حبكة درامية في سياق الواقعية الإنسانية,ليس فقط في ذاكرة تاريخ الإنسانية والفن;بل في ذاكرة كل مواطن مصري,في دور يجسده بدلا عنه الفنان الراحل عماد حمدي..كمواطن بسيط أرسل ابنته طلبا للدواء,بينما انتفض الصيدلي الذي قام بتركيب الدواء بنسب خاطئة مما جعله بمثابة سم قاتل لمن يتناوله,وقد أدرك الخطأ بعد أن غادرت تلك الطفلة,باحثا عن عنوان هذا المريض عن طريق رقم الطبيب المعالج ولم يتمكن من الحصول عليه,فجري علي الحكمدار ليبلغه بالحادث مترجيا ومتوسلا بالبحث عن هذه الفتاة,علها تكون لم تصل إلي البيت بعد,فترك الحكمدار مشغولياته,وأبلغ جميع الدوريات بالبحث عن الفتاة التي تحمل زجاجة الدواء,وطلب من الإذاعة المصرية بأن تقطع وصلاتها,وأن تنادي بهذا النداء الشهير;لعله يصل للمريض,وانطلق في الشوارع مع الدوريات للبحث عن الفتاة إلي أن وصل بالفعل إلي المدعو أحمد إبراهيم,وانتهي الفيلم بجملة يوسف وهبي الرائعة لزوجة المريض:واجبنا يا هانم السهر علي خدمة الجمهور! وبالنظر إلي الصورة التي نقلتها عدسة المخرج المبدع بواقعية سحرية مميزة جابت شوارع القاهرة وأزقتها,في رحلة البحث عن المواطن المذكور;لإنقاذ حياته قبل أن يشرب الدواء المسموم,ويقظة ضمير الصيدلي,الذي هرول مسرعا للإبلاغ عن الواقعة في محاولة لإنقاذه,دون النظر إلي العواقب التي قد يتحملها هو حال الإخفاق في ذلك,وجهاز الشرطة الذي سخر كل طاقاته واهتماماته,في مهمة الوصول إلي مواطنه المقصود قبل فوات الأوان,دون النظر إلي تبعية المواطن أو منصبه أو نفوذه,ولكن فقط قيمته الإنسانية,التي باتت أبخس السلع في مجتمعنا اليوم..فقد اختفت تلك الصورة الإنسانية المتناغمة من واقعنا الحالي,الذي باتت أنقاض إنسانيته حقا بين الحياة والموت. (حياة أو موت)..ليس مجرد عملا فنيا نقل صورة حالمة لتقدير قيمة الإنسان والإنسانية,بل تتجلي من خلاله صورة مناقضة تكشف واقع مصر الآن,لنجد أننا نحيا واقعا مسموما في كل مركباته المجتمعية,يفتقد الضمير والإنسانية,وتفوح منه روائح مختلطة بين التخاذل والإهمال,ويتخللها الفساد والمحسوبية,وانعدام المسئولية واللامبالاة,التي تنذر بحجم التهديد المحيط بالوطن,والجرعات المسمومة الواردة إلينا,في صورة منشطات دينية,أو أقراص داعشية,أو حقن ثقافية متطرفة,أو حتي(لبوس)سياسي. فكل مواطن علي ظهر المحروسة هو( أحمد إبراهيم),وكل مصر دير النحاس,وكل مسئول في هذا الوطن هو( حكمدار العاصمة),وكل عالم دين,أو سياسي,أو إعلامي,أو مبدع,أو متصدر للمشهد بأي طريقة,هو الصيدلاني الذي أخطأ في إعداد الدواء وعليه أن يصلح خطأه,فكلنا شاركنا في صناعة الدواء المسموم وتجرعنا بعضه,وعلي الجميع أن يتشاركوا في الإغاثة..فالمواطن( أحمد إبراهيم) القاطن في كل شارع أو حارة أو زقاق أو نجع,أصبح غير آمن علي وصول دوائه,وغير واثق من صحته,أو حتي أن حكمدار العاصمة قد يعبأ بأوجاعه,علاوة علي غياب الإنسانية التي يمكن أن توقظ ضمير كل( حكمدار),وتعيد الثقة إلي كل( أحمد إبراهيم),أو المسئولية التي تترجم دور الدولة الراعية في أداءات تتفاعل كلها من أجل حماية المواطن الإنسان.