نعم.. النص أكثر ذكاء من صاحبه, هكذا عبر- ألبرتو ايكو صاحب اسم الوردة درة الأعمال الروائية في القرن الماضي- عن كيمياء الإبداع وما تحتويه من توهج وانفعال وتشوق. فليست النصوص الأدبية وعلي إطلاقها سوي مخاضات فكرية وفنية تحمل من دلالات المعني ما يتجاوز دلالات اللفظ ومعطياته بل واللغة بأسرها,فرحابة النصوص تتضاءل أمامها آفاق الكون ورحابته,ذلك لما تقدمه من إيحاءات وعطاءات فياضة, فالنصوص في علويتها تمثل طاقة ملهمة مجددة لاشراقات كامنة في نفس ووجدان الأديب لتتألق في فضاءات لم يكن لذاته بها توقع أو احتمالية أو تخيل. نعم فالنصوص ملكات استثنائية تتقدمها اكتشاف إبداعية الأديب لما تمثله من تشريح لومضات الوعي الخلاق وحيز الشعور واللاشعور ومساحات الكوامن والخوافي,ولعل رواية حافة الكوثر للشاعر والروائي( علي عطا) قد أتت ممثلة لكل ذلك وبعضه في آن. ولعل الفكرة المركزية للرواية قد جاءت ممسكة بتلابيب القضية الكبري المؤرقة للإنسان المعاصر تلك التي مثلت باعثا قويا لهروبه وفراره إلي واقع مرير أفرزه واقع معاش يقذف بأفراده جميعهم علي أعتاب الكوثر,تلك الواحة الحافلة بأفراد تتباين وضعيتهم وتختلف ظروفهم ومقدراتهم الحياتية أشد الاختلاف وأقواه, لكن جميعهم أفراد أنهكتهم خطايا الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي وجملة التناقضات الصارخة التي تخرج العقل عن أطواقه محدثة لهزات نفسية مروعة من ثم يصبحون فريسة لليأس والإحباط والكآبة ويدخلون دوائر اللامعني ويصير الهذيان هو اللغة المشتركة بينهم,لكنه هذيان الوضوح والمكاشفة ومحاولات الاقتراب من الحقيقة علي نحو من الانحاء بعيدا عن الزيف والتلبيس والاختلاق ليصبح الكوثر هو الوطن البديل أو العالم الأسمي ذلك الذي يزهد مقيمه في الخروج إلي غيره!! إن الرواية إنما تزخر بالشيء الكثير من أصداء السيرة الذاتية التي تحتشد فيها التأملات حول جغرافيا التاريخ وتاريخ الجغرافيا ذلك المرتبط بتلك البقعة المحفورة في الذاكرة بكل تفصيلاتها وتحوراتها وتكثر فيها إطلالات الوعي المتفتق علي صخب البانوراما الحياتية وممارسة الإسقاط علي الطلسمات المجتمعية والسياسية والثقافية..ولعل أفضل ما تثيره الرواية من قضايا هو ذلك الطرح المتعلق بتلك الاشكالية الحضارية شديدة الوطأة علي العقل العربي والإسلامي,إذ جاء علي لسان أحد رواد الكوثر أن نظرية النسبية لاينشتين هي نظرية خاطئة وكذلك نظرية الانفجار العظيم لهوكينج لا تعدو أن تكون خرافة كبري مستدلا بالمصداقية القرآنية والسنة النبوية,ذلك أن الآفة الفكرية في المجتمعات العربية إنما تتمثل دوما في عقد المقارنات بين الثوابت والمتغيرات,فالأديان السماوية وعلي اختلافها تطرح الحقائق اليقينية العليا بينما العلم يقدم حقائق متغيرة خاضعة للإثبات والنفي طبقا لمعطيات المد الزمني ومن ذلك تبدو مفردات المعادلة غير منطقية. وإذا كانت هذه إحدي أقاويل أشخاص الرواية فان شخصا آخر قد طرح حلا ناجعا لأزمة أفراد الكوثر بل ولغيرهم خارج المصحة ذلك حين أكد ان العلاقة بالله ستظل هي العاصم الأوحد والملاذ الواقي من الجنون والانتحار وليس هناك من بديل علي الإطلاق مهما تباينت الأزمنة والأمكنة..فمصحة الكوثر تلك القابعة بين الغابات الأسمنتية قد باتت تمثل لساكنيها فردوسا يتأبي علي جحيم الواقع,وجدلا لو خطر لأحدهم فكرة أن يغادرها عائدا إلي بيته أو عمله فلن يتمكن من التكيف والاندماج وستكون العودة إليها غالبا بدافعية ذاتية أكثر من كونها بفعل الإرادة الأخري. إن الشاعر علي عطا قد أراد أن تمثل روايته الأولي حافة الكوثر صرخة مدوية في وجه كل الموبقات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية ولعلها تكون النبتة الأصيلة في انطلاقاته نحو مشروع روائي يعبر في افاضة عن نبض لحظات التأزم في أطوارها وغرائبها التي يعايشها الانسان المصري والعربي,وليظل يوقظ داخلنا آلام الواقع المتردي ويرصد تأوهات من دخلوا الكوثر خلال ذلك الجرح السري الذي يكمن بداخل كل مبدع كما قال جان جينيه.