يوم الجمعة من كل أسبوع, يتنامي إلي أسماعنا صراخا يبدأ مع الآذان ثم يتزايد حتي يعلو علي صوت المؤذن. كلمات باللهجة الصعيدية كانت تضل طريقها لتخرج من فم زوجة بواب العمارة المقابلة لنا: يابني اصحي بجي الجمعة ندهت.. ياوله حرام عليك, نفسي إتجطع.. يادي الغلب, هو الموال ده ربنا مش حيرحمنا منه أبدا.. جوم جامت جيامتك.. والنبي لأجول لخالك يرنك علجة تاني.. ياواد فجعت مرارتي.. نامت عليك حيطة, جوم يامنيل.. وعلي مدار عدة أسابيع إستطعت أن اعرف كل المفردات التي تستخدمها تلك السيدة مع ابنها الذي يتكاسل عن الذهاب لصلاة الجمعة من كل أسبوع عدا شيء واحد, اسم الصبي. ووجدت قدماي تسوقانني إلي مصدر هذا التلوث السمعي. زيارة مفاجئة, ليس بسبب تربوي لا سمح الله, فالفنانة هالة فاخر في إعلاناتها عن غسالة الملابس لم تتورع أن تتعامل مع ابنها بطريقة أكثر سوءا وبألفاظ أكثر بذاءة لم تخدش أذن المخرج أو المنتج أو حتي المشاهد, ولكن السبب الحقيقي كان من أجل أن أنعم بعطلة نهاية الأسبوع مع أسرتي في هدوء وسلام. لم أقرع الباب فهو مفتوح للأفراد والكائنات الأخري, ولكن تناغم التلوث السمعي والبصري كان جديرا بريشة فنان تشكيلي يهوي الواقعية السوداء. وجدتني أمام سيدة بسيطة غير متعلمة أتت من جنوب الصعيد من أجل لقمة العيش في البندر. لا تفهم من دينها معني نظافة اللسان أو الثوب أو المكان. أما الصبي ذو الخمسة عشر ربيعا فلا يفهم سبب غضب أمه تماما كما لايفهم كلمة واحدة من كلام سيدنا الشيخ اللي في المسجد اللي تملي يزعج ويصرخ ولا كأننا ميتين بيصحيهم يادكتورة. فوعدت مصطفي أن أذهب معه إلي الجامع لأصلي الجمعة وأستمع إلي الخطبة حتي أساعده علي فهمها. وما أن وطأت قدماي المكان حتي فهمت لماذا ينفر بعض الشباب من إرتياد أماكن العبادة. المكان عبارة عن زاوية صغيرة أسفل عمارة من عشر طوابق. المكان في بدروم معتم كان مخصصا لجراج السيارات المملوكة لأصحاب الشقق. الرطوبة قد أتت بلا ندم علي ماتبقي من الحصيرالمتآكل. والحشرات لا تخجل من مغادرة أماكنها للتجول أمام المصلين. جدران الحوائط أسقطت عنها الطلاء بلا أدني حياء. ثم وصل إلي مسامعي صوت الإمام يخطب في جموع المصلين رجالا ونساء. لم أتمكن من رؤيته بسبب هذا الحشد الكبير من الرؤوس التي تخفي معالمه. ولكنني كنت علي يقين أنني أعرف صاحب الصوت الذي يصرخ بتعاليم الله, وكلما إزداد حماسا علا صوته ليسمع من في القبور. لم أفهم إلا كلمات معدودة نطقها بصعوبة شديدة وكذلك عدة جمل غير مكتملة المعالم أو حتي المعاني. ولكن هذا المستوي المتدني في اللغة والفقه كان كفيلا بأن يضمه لفرق الخطباء الجهلاء. وما أن هدأ الزحام من حول الإمام وتفرق المريد ومقبل الأيادي وطالب الفتوي وملتمسة البركة إلخ... وجدتني وجها لوجه أمام مولانا. فإذا بي أنادي بدهشة علي بواب عمارتنا السابق: عم أحمد.. إزيك وإزي أولادك وإزي أم سناء؟ فيجيبني بنفس العفوية وببشاشة طبيعية: ست الدكتورة! إزي حضرتك؟ وإزي البيه الدكتور؟ والأولاد ؟ فين أيامكم الحلوة ياست الكل؟ لسة بتسافري برة يادكتورة؟ والنبي مزنوق في شوية دولارات!