وقفت بين الدين والعلم والحجا فأطلعت نورا من ثلاث جهات وقفت لهانوتو ورينان وقفة أمدك فيها الروح بالنفحات وخفت مقام الله في كل موقف فخافك أهل الشك والنزعات بكي الشرق فارتجت له الأرض رجة وضاقت عيون الكون بالعبرات ففي الهند محزون وفي اليمن جازع وفي مصر باك دائم الحسرات وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب وفي تونس ما شئت من زفرات بكي عالم الاسلام عالم عصره سراج الدجي هادم الشبهات هذه الأبيات لشاعر النيل حافظ ابراهيم في رثاء الامام محمد عبده رحمه الله, وفيها يعدد مناقبه ووقفته في مواجهة أهل الشك والنزعات والمخربين والمستشرقين, كما يصور حزن المسلمين قاطبة علي وفاته. كان حافظ ابراهيم واحدا من الذين يفخرون بأنهم من تلاميذ الإمام, ومنهم محمد رشيد رضا, وسعد زغلول, وقاسم أمين وشيخا الأزهر مصطفي عبد الرازق ومحمد مصطفي المراغي, وعز الدين القسام وغيرهم كثيرون. كان الامام مجددا وداعيا للتطور ومدركا ضرورة مجاراة العصر والركب السريع للأمم الناهضة. كان يري نفسه أنه معلم منير للعقول, داعيا للحقوق والواجبات, مصلحا للعقيدة الاسلامية, ومدافعا عن الإسلام. لا بد هنا من الاشارة الي قدرات الشيخ الفائقة وأنه كان رحب الصدروواسع التفكير. كان هدفه ايقاظ العقول الراقدة وتوسيع الصدور الضيقة, وتنقية الدين من الشوائب التي علقت به وترسبت علي أصله الذي لا يضيق بالعقل ونظره. هو بلا شك أحد المصلحين ذوي الجهد المحمود عبر تاريخ الإسلام. حباه الله الي جانب الموهبة اعتدالا واتزانا وحكمة ورؤية نادرة. ذكر الأستاذ محمد يوسف موسي في بحث له بمجلة المقتطف بتاريخ يونيو1944, واصفا دوره التجديدي, وآرءه التنويرية في كتابه رسالة التوحيد: بدأ الشيخ بالنظر في العداوة الواضحة بين الدين والعلم التي لا تقوم إلا علي أساس من الجهل لف العقول بحجاب كثيف فمنعها من التفكير, وران علي القلوب فجعلها تضيق بأي لون من النظر العقلي. هذا والاسلام دين العقل والفكر, فأمر بالنظر واستعمال العقل في ما بين أيدينا من ظواهر الكون وما يمكن النفاذ اليه من دقائقه تحصيلا لليقين بما هدانا اليه ونهانا عن التقليد بما حكي عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم وتبشيع ما كانوا عليه من ذلك. فالقرآن قد رفع العقل مكانا عليا, حتي جعل أمر السعادة ينتهي اليه, كما جعل له النظر في كل مما خلق الله وكشف أسرار الكون المكنونة. أيقن الشيخ بهذا كله منذ سنوات شبابه الأولي, وأيقن بضرورة العمل علي تآزر الدين والعلم, وأنهما في حاجة الي الآخر, وأن العقل يجب أن يسبق النقل عند التعارض, لأن أول أساس وضع عليه الاسلام هو النظر العقلي الذي هو وسيلة الايمان الصحيح, وأن العقل هو ينبوع اليقين في الايمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق برسالته. كان الشيخ سمحا ومتسامحا, وداعيا الي التسامح وداعيا الي عدم تكفير الآخر, وأنه لا يصح باعتقاد طرفي النفي والاثبات في المسائل الخلافية في الدين, ما عدا مسألة الألوهية والنبوة والمعاد, فان انكار شيء من هذه الأمور الثلاثة كفر. تولي في9 أكتوبر1880 رئاسة تحرير الوقائع المصرية, أي قبل احتلال الانجليز لمصر بعامين, فأصلحها وطورها وأدارها بطريقة لا تقل كفاءة وجودة عن ادارة أي صحيفة عالمية. جعل لها لوائح جديدة, وجعلها نموذجا أخلاقيا يفوق أخلاقيات النشر في أعرق أي صحيفة محلية أو عالمية في زمننا هذا, ووضع لها الأصول لتبلغ عصرها الذهبي ابان رئاسته لها. استمر في رئاستها حتي10 يوليو, وفصل رسميا منها في16 سبتمبر1882, بعد الاحتلال البريطاني. شاءت ارادة الله أن يكون زمنه من أصعب الأزمنة التي مرت بها مصر في العصر الحديث. كان هناك الاحتلال البريطاني البغيض وما صحبه من هجمته علي مفاصل الوطن والاستيلاء علي مقدراته ونهب ثرواته ومحاولة مسخه. حاول الشيخ جهده قبل الاحتلال ليمنعه, طبقا لما جاء في كتاب التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر, المنشور عام1907, والذي ذكر فيه صديقه الانجليزي, المؤلف ويلفورد سكاون بلانت, فيه محاولات الشيخ محمد عبده معه, اطفاء نار الحرب ومنع الغزو البريطاني لمصر, وذلك بالاستجابة للمطالب البريطانية المصطنعة حينها مثل وجود العبودية التي كانت تتخذها بريطانيا ذريعة لاحتلال اي دولة تريدها, اضافة الي اتهام عرابي وصحبه بالتعصب ضد الأقليات وغير ذلك من أساليب التمحيك الاستعمارية, واثارة الفوضي والبلابل عن عمد, ولكن المساعي فشلت جميعا, لأن غزو مصر واحتلالها كان هدفا استراتيجيا اقتصاديا واستعماريا. وتم توجيه انذار للحكومة المصرية بضرورة ارجاع الخديو توفيق, المخلوع حينها ونفي أحمد عرابي. وقد تم رفض هذا الانذار المهين من قبل مصر في27 مايو1882 لما يحويه من مهانة مقصودة, ومصممة علي أن تكون غير مقبولة. عقب الاحتلال, تم القبض عليه لاشتراكه في الثورة العرابية. يقول الأستاذ أحمد أمين عن ذلك في كتابه زعماء الاصلاح, مكتبة النهضة1948: أودع السجن ثلاثة أشهر للتحقيق لاقي فيها الأمرين من اضطهاد واهانة وشماتة أعداء وتنكر أصدقاء وتضييق بالأسئلة واحراج في الاستجواب, ثم حكم عليه بالنفي خارج مصر لمدة ثلاث سنوات. أقام في بيروت بعدها نحو عام1883- وسنه اذ ذاك أربع وثلاثين. ثم لا يلبث أن يدعوه أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني ليوافيه الي باريس, فيلبي الدعوة ويشتركان في اخراج مجلة العروة الوثقي. يقول أحمد أمين أن مقالات الشيخ محمد عبده في العروة الوثقي, كانت تختلف عن مقالاته في الوقائع المصرية عندما كان يديرها. كانت مقالات الوقائع محلية تقصد الي الاصلاح الاجتماعي في مصر وحدها بأسلوب هاديء, يغلب عليه العقل والتحفظ والتدرج, ومقالات العروة الوثقي تنظر الي العالم الاسلامي كله علي أنه وحدة واحدة. كانت استراتيجية المجلة ترمي الي الدعوة الي مناهضة الاستعمارالأجنبي في كل بلاد المسلمين, وتهدف الي مقاومته عن طريق ثورة الشعوب الاسلامية ضد الاستعمار بواسطة العقيدة الصحيحة, وتوليد القوة الدافعة الحاثة علي المقاومة, وزرع الأمل في النجاح, والتخلص من اليأس, وتوثيق الصلات بين الشعوب الاسلامية كلها لتتعاون علي التخلص من الاستعمار والتخلص من الظالمين من أهلها المتعاونيين معه, وتأسيس الحياه الاجتماعية والدينية والسياسية في البلاد الاسلامية علي الأصول الاسلامية الصحيحة مثل اعداد السلاح ومقابلة القوة بالقوة, والتخلص من العقائد الدخيلة التي تدعو الي الاستسلام مثل رمي العبء كله علي القضاء والقدر, وافهام الشعوب أن الاسلام الصحيح لا يتنافي مع الحضارة والمدنية, ولا يعوق التقدم والوصول الي ما وصلت اليه الأمم الراقية الأخري. ولأن العروة الوثقي كانت تزعج بريطانياالمحتلة حينها, ازعاجا شديدا لما تمثله من دعوة الي مقاومة حقيقية خطيرة ضدها, وعليه لجأت الي التضييق عليها حيث تصدر في فرنسا, ونجحت في ذلك, فتوقفت بعد ثمانية أشهر من صدورها, حيث بلغ عدد الأعداد الصادرة منها ثمانية عشر عددا. عقبها سافر الشيخ الي بيروت مرة أخري حيث تجنب السياسة. عمل في بيروت معلما ومؤلفا. في مجال التأليف حيث شرح نهج البلاغة ومقامات بديع الزمان الهمزاني. وفي العمل أخذ يدرس تفسير القرآن في مسجدين من مساجد بيروت, كما أنه دعي للتدريس في المدرسة السلطانية, فأصلح برامجها وطورها تطويرا كبيرا, ونجح في نقلها وتحويلها من مدرسة أولية الي مدرسة عالية, وكان يدرس فيها التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ الاسلامي والفقه, كما أنه جعل من بيته مقرا للندوات العلمية والأدبية والثقافية. يقول أحمد أمين عن ذلك النشاط: كان لبقا في دروسه وأحاديثه, يشتاق اليها المسلم والنصراني. ونتج عن تلك الأنشطة أنه قام بعد عودته الي مصر بنشر ثلاثة كتب هي: رسالة التوحيد, وشرح البصائر, النصيرية في المنطق. وعلي الجملة فقد خلق في بيروت حركة علمية راقية استفاد منها كثير من أهلها من بعد رحيله عنها. اضافة الي ذلك, كان يكتب مقالات صحفية في جريدة ثمرات الفنون اللبنانية. كما أنه وضع لائحتين في اصلاح التعليم الديني في مدارس المملكة العثمانية أثناء وجوده في بيروت, رفع احداهما الي شيخ الاسلام في الاستانة, ذكر فيها أن ضعف المسلمين مرده سوء العقيدة والجهل بأصول الدين وأساسياته, وأن ذلك أفسد أخلاقهم وأضاعها, وأن العلاج الوحيد هو اصلاح التعليم الديني. وقد وضع الشيخ خطة لتحقيق ذلك, وأرفقها لائحته المرسلة. أما اللائحة الأخري فقد رفعها الي والي بيروت, اقترح فيها تعميم المدارس الوطنية واصلاح برامج التعليم الديني والعناية به. ظل الشيخ محمد عبده في المنفي ست سنوات رغم أن الحكم عليه كان بالنفي ثلاث سنوات فقط, لأن الخديو توفيق كان غاضبا عليه, اذ كان ممن اتهم في الثورة العرابية بجهره بخلع الخديو توفيق. اضافة الي ذلك, نقده الشديد للخديو واتهامه له في احدي المقابلات الصحفية معه أثناء زيارته للندن, بأنه هو الذي مهد للاحتلال البريطاني لمصر. لهذا كان من العسير عودته الي مصر في عهد توفيق. رغم ذلك سعت مجموعة من المقربين لكل من الخديو والانجليز ربما بايعاز من تلميذه سعد زغلول, عند الخديوي في عهد وزارة رياض باشا منهم الأميرة نازلي, كما كانت هناك شفاعة اللورد كرومر المهمة لدي الخديو, التي سجلها وذكرها اللور كرومر نفسه في كتابه مصر الحديثة, أن العفو عن الشيخ محمد عبده كان بسبب الضغط البريطاني. عندما عاد الشيخ الي مصر قررترك السياسة وقصر عمله علي الاصلاح الديني والنظم الدينية, اضافة الي أنه وجدها متغيرة تماما عما كانت عليه قبل أن ينفي منها لمدة ست سنوات طويلة, ووجد كل شيء في أيدي الانجليز, ووجد جميع الوزارات تحت أيديهم. يقول أحمد أمين عن ذلك: لقد أصبح كل شيء في يد الانجليز, لهم في كل نظارة من يستبد بالأمر فيها دون الناظر, حتي الداخلية وحتي التعليم وحتي الأزهر والمحاكم الشرعية, وأن النظار لم يكونوا سوي قطع شطرنج يلعب بها الانجليز, والمديرون في البلاد خاضعون للمفتش الانجليزي, والعميد الانجليزي مقصد كل ذي حاجة, والمقرب الي الانجليز مقبول الشفاعة, مقضي الحاجة, واسع الجاه, والمبعد عنهم معطل الحوائج مضطهد محارب حتي في أدق الأمور. وسط هذا الجو, ووسط المؤامرات والمكايد والجو المشحون, جعل الشيخ كل طاقته في اصلاح العقيدة والمؤسسات الاسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. أدرك الشيخ محمد عبده أنه لكي يقوم بهذه الاصلاحات, يتعين عليه مسالمة الخديو, والاستعانة بالانجليز فيما ينوي من اصلاح. يفسر الأستاذ أحمد أمين ذلك بقوله: وضع الشيخ بعد عودته الي مصر تقريرا عما يراه في وجوه اصلاح التعليم في مصر, ورفعه للورد كرومر لا الي غيره, تسليما منه بأنه القوة الفعالة. ويدل عليه سيرته الواقعية, فقد ظل طول حياته بعد عودته يسالم الانجليز ويتعاون معهم, وهي سياسة لها منطقها, فقد كان يري أن جلاء الانجليز لا يأتي الا عن طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته, وغضبه من الاعتداء علي حقوقه, وهمته في آداء واجباته... كان في مصر حينها رأيان: رأي يقول أنه لا أمل في الاصلاح الحقيقي الا بزوال الاحتلال أولا, ورأي يري أن الاصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء, وعلي الرأي الثاني كان الشيخ محمد عبده وأصحابه, وعلي الرأي الآخر كان مصطفي كامل وأصحابه, وبينهما حرب عوان, يتهم الأولون الآخرين بالرعونة, ويتهم الآخرون الأولين بالرجعية والضعف. عين الشيخ بعد عودته الي مصر قاضيا أهليا في محكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين, ثم مستشارا في محكمة الاستئناف, ولم يسمح له بالتدريس ضمانا لعدم احتكاكه بالطلبة. عندما مات الخديو توفيق, تولي ابنه عباس الحكم عام1892, وحدث تقرب بين الشيخ وبين الخديوي الجديد, وحسن اليه الشيخ أن يتجه الي اصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية, وليكن البدأ بالأزهر, واقتنع الخديو بذلك, وعينه مفتيا للديار المصرية. غير أنه حدث أن غضب الخديو عليه بعدها بمدة, وأراد أن يعزله من منصبه, غير أن اللورد كرومر رفض وصرح بأنه لا يوافق علي عزله من منصب الافتاء مهما كانت الأحوال ما دام موجودا. اضافة الي ذلك, كان له خصوم أقوياء, لجأوا في حربهم عليه الي كل الأساليب المغرضة واللا أخلاقية لازاحته والقضاء عليه, واستخدموا كل الطرق والتلفيقات في سبيل تحقيق أهدافهم تلك. يقول أحمد أمين عن ذلك: زاد خصومه وقاحة, فلفقوا صورة شمسية له مع بعض نساء الافرنج وحملوها للورد كرومر, وأفهموه أن هذا في عرف المسلمين لا يجوز صدوره ممن يتولي منصب الافتاء, فلم يأبه لقولهم, وصورته الجرائد الهزلية بصور شنيعة, وحكم علي أصحابها بالحبس...وكان بعض أصدقائه كسعد زغلول وقاسم أمين يعيبون عليه الحاحه في اصلاح الأزهر, مع انه غير ممكن بهذا الوضع.. فلم يأبه أو ينثني عن هدفه, وصار أكثر اصرارا, ومضي في عمله تشحذه الخصومة ويقول: ان وجداني الديني لا يرضي بالصمت علي المفاسد. استمرت محاولاته الاصلاحية متزامنة مع المزيد من المكايد والمؤمرات ضده, والتي كان يدبرها خصومه, فظهرت حركة تدعو الي الفوضي والشغب, وتشكو من شيخ الأزهر ومن مجلس الادارة, وكان القائمون بها من المتصلين بالخديو, الذي عين شيخا جديدا للأزهر عقبها, هو الشيخ عبد الرحمن الشربيني, وهو ممن لا يستطيع الشيخ محمد عبده العمل معه لرجعيته وجموده. كتب أحمد أمين عن ذلك,مسجلا وموثقا لتلك المؤامرة المحكمة: خطب الخديوي في حفلة الانعام بالمنصب علي شيخ الأزهر الجديد خطبة تدل علي غيظه الشديد من الشيخ محمد عبده وصحبه قال فيها: ان الأزهر أسس وشيد علي أن يكون مدرسة اسلامية, تنشر علوم الدين في مصر وجميع الأقطار العربية. ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهروالأزهريين دائما, ولكن للأسف رأيت فيه من يخلطون الشغب بالعلم, ومسائل الشخصيات بالدين, ويكثرون من أسباب القلاقل.. وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر, والشغب بعيدا عنه, فلا يشتغل علماؤه وطلبته الا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار أيقن الشيخ بعدها, أنه يتعين عليه الاستقالة من منصب المفتي, وقد آمن بعجزه عجزا تاما عن اصلاحه الذي يريده. مرض عقبها مرضا شديدا ووافته المنية علي أثرها في الحادي عشر من يوليو1905, وكان عمره حينها ستا وخمسين سنة, وقرر مجلس الوزراء حينها أن تكون جنازته رسمية وأن تشيع في كلا من القاهرة والاسكندرية, وقد كانت جنازة مهيبة وتاريخية. [email protected]